مسافر إلى "نكلا العنب" ! روائع كتابات ا.د. عاطف معتمد

كوكب المنى يناير 06, 2022 يناير 06, 2022
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

 مسافر إلى "نكلا العنب" ! روائع كتابات ا.د. عاطف معتمد



أمضيت يوم أمس مترجلا في المركز الإداري الشهير "إيتاي البارود" في محافظة البحيرة غرب دلتا النيل.


لا يشير أهل تلك البلاد إلى وطنهم باسم البارود، فعند مواقف الحافلات التي تنقل الناس بين العزب والكفور تسمع فقط "إتــــــيه...تيه" المختصرة من "إيتاي" التي يثبتها محمد رمزي في قاموسه عن البلاد المصرية منتصف القرن العشرين بأنها الاسم الأصلي المحفوظ من المصادر الفرعونية، أما "البارود" فمسمى أضيف لها في العصر العثماني حين أقيم بها معمل لإنتاج البارود فسميت بالتركية "إتياي باروت" ثم حرُفت لاحقا إلى "إيتاي البارود" 


أول ما قابلني قرية تحمل على خرائط جوجل اسم "الهوانم" بينما تحمل على خرائط الحملة الفرنسية قبل أكثر من 200 سنة اسم الشيخ "غانم"، ما لا أعرفه كيف تحول "غانم" إلى "هانم" ثم "هوانم" !؟ 


في غضون 20 سنة لن تصبح "الهوانم" قرية زراعية فالأفدنة الباقية بينها وبين "إيتاي" آخذة في الانكماش.  


نسيت أن أقول إنه عند مدخل هذه البلاد قابلتني الترعة الكبرى التي يسميها سكان المدينة "بحر إيتاي" بينما اسمها الرسمي على خرائط يعود عمرها لنحو 100 عام "ترعة الخندق".

لا أستطيع وضع صورة لترعة الخندق مراعاة للذوق العام، خاصة أن ما يدعو للسخرية أنه على بعد عشر خطوات من الترعة الملوثة بكميات ضخمة من المخلفات تقف شاشة إليكترونية عملاقة تنشر  في وضح النهار بألوان ساطعة إنجازات المحافظة ومجلس المدينة.


تجاوزت "الهوانم" في طريقي إلى "أمليط" التي ينطقها أهلها "مليط" تخففا، كدت أسمع أنين الترع والمصارف التي تضج بالشكوى من التلوث بينما عربات شفط مياه البيارات من مليط تأخذ مخلفات البشر لأنه لا يبدو أن الصرف الصحي يغطي كافة أرجاء القرية التي توسعت هي الأخرى دون سابق إنذار أو تنسيق مع خدمات الدولة من صرف صحي ومياه للشرب. 

بالابتعاد عن "مليط" في اتجاه فرع رشيد بدأ السير على الأقدام يؤتي ثماره، انكشفت أمامي مساحات أوسع من الحقول فسرت ممتعا البصر والفؤاد ناظرا إلى شواشي حقول الذرة والسمسم، كان الأرز الذي ظننته قمحا وقت النضج يحاول أن يزهزه في أفق لا نهائي


لم يكن يعكر صفو التجوال بين هذه الحقول سوى سلاسل لا تنقطع من عربات "الريكشا" التي تجري هنا وهناك بين العزب والكفور تشبه في شكلها خنفساء قبيحة وفي سرعتها دبابير طنانة هوجاء.

تجاوزت عزبة صغيرة لطيفة تسمى "سيدي مسعود" عند ترعة تحمل على خرائط مطلع القرن العشرين اسم "ساحل مرقص" بينما لا يعرف الأهلون اسمها الحالي. 


من سيدي مسعود إلى "دميسنا" مسافة قصيرة تصل بك مباشرة إلى  "كفر عوانة" الذي يصل بك بدوره إن رغبت إلى البلدة الأثيرة العظيمة "شبراخيت". لم أكن لأضيع شبراخيت في نفس اليوم وأراها على عجل فتركتها ليوم مستقل وعطفت شرقا إلى "نكلا العنب".

لك أن تعرف أن الإدريسي الذي وضع خريطته للعالم قبل نحو 900 سنة أشار   إلى "نكلا" العنب في جغرافيته عن العالم، على نحو ما يؤكد لنا محمد رمزي .


حين عدت إلى خريطة الحملة الفرنسية وجدت أن الجغرافيين الفرنسيين حرفوا اسمها إلى "نخلة" مع الاحتفاظ بالرسم اللاتيني "نكلا". شعرت بعراقة المكان عبر القرون خاصة مع موقع البلدة الاستراتيجي قرب فرع رشيد لكن شيئا ظهر فجأة أفسد متعة السفر ودفعني إلى العودة.

لقد انشقت البلدة عن صور عملاقة لمرشح مجلس الشيوخ في الانتخابات الأخيرة، كان الشارع كله غارق في صور الرجل ورمزه الانتخابي الذي يتوسط الصورة.

حاولت أن أدير وجهي عن رمزه الانتخابي ففشلت، ظل الرمز يطاردني حتى خيل لي أنه سيتحرك من الصورة ويستعد للانطلاق نحوي فهرعت إلى المغادرة . كان رمز "المسدس" الذي اتخذه ذلك المرشح هو أغرب ما رأيت في كل بلاد العالم التي زرتها: مسدس...لماذا؟! وهنا في نكلا العنب التي ذكرها الإدريسي قبل نحو 900 سنة؟


اكتفيت من "نكلا" بما تحقق وركبت أول سيارة عائدة إلى إيتاي البارود. كان السائق متهورا يسابق سيارات التوكتوك بين الجسور الزراعية. قررت كعادتي أن أخوض اشتباكا صغيرا ألقنه فيه نصائح مدرسية عن ضرورة الالتزام بالسرعة وإلا غرقنا جميعا في الترعة التي لا يفصلنا عنها سوى سنتيمترات .... لكني عدلت عن القرار.

عدت إلى مقعدي وهونت على نفسي ووجدت أن الأمر لا يدعو إلى كل هذا القلق، نظرت إلى حقول الذرة التي تتخللها أفدنة يانعة من الكرنب الأخضر الذي ينتظر الحصاد بينما أصوات مضخات المياه التي تنقل المياه من الترع إلى الحقول تعزف جميعا جملة موسيقية واحدة متكررة ومتوقعة تجمع بين النظام والتناغم. 


حين وصل سائقنا المتهور إلى إيتاي التي انطلقت منها صباحا شعرت بسعادة بالغة فقد حققت انتصارات صغيرة متتالية: ها أنا راجعت الخرائط مع الواقع، وشربت فنجان قهوة ساعة العصاري على مقهى في سيدي مسعود ناظرا إلى الترع والجسور، وفوق كل ذلك نجوت بأعجوبة من مسدس المرشح الانتخابي.

***

نشرت هذه الرحلة في مثل هذ اليوم من العام الماضي

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/