استدانة من الصحاري المصرية إلى ساحل الإسكندرية !من كتابات ا.د. عاطف معتمد

كوكب المنى فبراير 18, 2023 فبراير 18, 2023
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

 استدانة من الصحاري المصرية إلى ساحل الإسكندرية !من كتابات ا.د. عاطف معتمد




أخذت هذه الصورة عصر أمس في القطاع الممتد بين سان ستيفانو وسيدي بشر، والصورة نموذج متكرر لتحويل ساحل المدينة من شاطئ طبيعي إلى اصطناعي، لا علاقة له بهويته الأصلية، وأهم علامات مسخ هويته وضع مصدات للأمواج وتكسية الشاطئ بهذه الصخور الغريبة الوافدة عليه من قلب الصحراء.


لم أتردد كثيرا في التعرف على هذه الصخور، وذلك لأني قد خبرت مثيلتها جيدا خلال الرحلة التي قمت بها قبل عدة أشهر في الصحراء الشرقية.

المدهش أن التصنيف العمومي لهذه الصخور يضعها في فئة الصخور الـ "جيرية" وهو ما يعني نظريا أنها قابلة للإذابة والتحلل في الماء. 


لكن قبل أن نتسرع في الحكم ونقول إن هندسة السواحل في المدينة تأتي بصخور جيرية سهلة النحت والإذابة، أود أن أخبرك أن هذه الصخور ليست جيرية بالمعنى البسيط للكلمة بل هي صخور جيرية صلبة ذات تكوين بلوري لا يسهل ذوبانه في الماء، فهي ابنة تأثير تحولات جيولوجية زادتها صلابة ونقلتها إلى مصاف نوع آخر من الصخور يسمي "الحجر الجيري الدولومايتي Dolomitic Limestone".، علاوة على تعرضها لاحقا لتأثير نظم الأنهار القديمة في الصحراء، وهي تصلح تماما لمهمتها الجديدة هنا في حماية الشاطئ.


وإذا تمكنت من فحص هذه الصخور ستجدها بالغة التكتل، ثقيلة الوزن، تشبعت بالمياه قبل ملايين السنين، تشبعت بالمياه لدرجة أنها لا تقبل أن تتشرب مياه جديدة.


وحين نقول إنها تشبعت بالمياه قبل ملايين السنين فإننا نقصد المياه العذبة، فهذه الصخور وإن كانت جيرية أي أرسبها البحر في الصحراء إلا أنها شهدت في الأزمنة الجيولوجية القديمة ما يسمى بعصور المطر الغزير الذي تخلل فيها وتغلغل بين مسامها 


في عصور المطر القديمة تلك، تدفقت في الصحاري المصرية عشرات الأنهار التي شقت طريقها في الصخور الجيرية التي كانت قد اكتسبت صلابة بحكم ظروف جيولوجية من ضغط وحرارة ومنحتها قوة الدولومايت.


والصخور التي أمامنا في الصورة رأيت شقيقاتها رَأْيَ العين وتفحصتها باليد والمطرقة في هضبة الجلالة القبلية، خلال بحثي الميداني للقطاع الواصل بين العين السخنة ورأس غارب.

وحسن استشرت أستاذ الجيولوحيا بجامعة عين شمس عبد المنعم محمود Abdelmoneim Mahmoud   الخبير بجيولوجية الإسكندرية أكد لي أن هذه الصخور وإن كانت تشبه ما شاهدته في هضبة الجلالة بالصحراء الشرقية إلا أنها أتت من هضبة المغرة في صحراء مصر الغربية.

 

في العصور المطيرة كانت الأمطار تسقط بغزارة على صحراوتنا، فشكلت جريانا من الأنهار اخترق الصخور الجيرية وصنع أنهارا غائرة وعميقة وصل بعضها إلى ما يمكن أن نسميه "الأنهار العميقة العمياء".


والصورة التي أمامنا تمثل صخورا من الحجر الجيري الدولمايتي تناظر ما وجدناه في الصحراوات المصرية الأخرى التي تشبعت بمياه الأنهار في العصور المطيرة، وبوسعك أن تستكشف ذلك مما تألف منها من عروق طولية وعقد دائرية وصفائح ورقائق متكتلة مندمجة من حبيبات بلورية كريستالية ناصعة البياض، كل ذلك محتضن مكتنف في الصخر الجيري الأصفر الحاوي لها. 


في هضبة الجلالة القبلية عثر علماء الآثار الفرنسيين مؤخرا على مثل هذه الصخور منقولة من الهضبة وغارقة تحت مياه خليج السويس، لأنها كانت تستخدم كمراسي للسفن المصرية القديمة التي تعبر إلى شبه جزيرة سيناء نحو مناجم النحاس. 

الكشف الذي توصل إليه علماء البعثة الأثرية الفرنسية – والذي أطلعوني عليه ميدانيا - انتهى إلى أن هذه المراسي المؤلفة من نفس الصخور التي تراها في الصورة المرفقة يعود إلى زمن الملك خوفو، أي ما يزيد عن 4500 سنة مضت !

على هذا النحو فإن مهندسي الشواطئ هنا في الإسكندرية لا يخترعون جديدا، بل يقومون بمحاكاة الهندسة المصرية القديمة منذ عهد خوفو الذي أسس أمام هضبة الجلالة القبلية مرسى وميناء لعبور المراكب إلى مناجم النحاس في شبه جزيرة سيناء.


  من الناحية النظرية تعتبر هذه الصخور مناسبة نسبيا كي توضع مصدات أمام أمواج الإسكندرية، تلك الأمواج التي صارت أكثر شراهة عن ذي قبل.

ووضع هذه الصخور الطبيعية هنا محاولة أخيرة متأخرة لتصحيح أخطاء قديمة حين اعتمدت هندسة الشواطئ على وضع مصدات من الكتل الخرسانية ثلاثية الأرجل.


يقول بعض علماء الجغرافيا الطبيعية إن الأمواج أقرب إلى الكائن الحي العاقل المدبر، وهو كائن ذكي وقابل للاستفزاز، يستنفره وضع تلك الكتل الخرسانية الصماء المصبوبة من الحديد والرمل والأسمنت.

وكأن الأمواج حين تصطدم بالصخور الطبيعية – ولا سيما من النوع الوافد من الصحراء  – تشعر أنها تقابل صديقا من الطبيعة وليس مسخا خرسانيا وعدوا من صنع الإنسان، وعلى هذا النحو تقل درجات الاستفزاز وتضعف مستويات التحدي وتهمد حالة الاستنفار والاستفزاز.


وهذا التفسير الرومانسي به بعض من الحقيقة العلمية، ففي القوى الحركية الناتجة عن الاصطدام والاحتكاك بين الأمواج والخرسانة المسلحة ما يدل على أن الكتل الخرسانية ترد صدمات الأمواج بعنف أكبر واحتكاك أشد وطاقة مضاعفة تزيد من شدة التعرية التي تقوم بها الأمواج جراء الاحتكاك الصادم.


هل كنا في حاجة إلى جلب صخور جيرية دولومايتية بلورية من الصحراء  إلى ساحل الإسكندرية؟

الحقيقة التي تدهشنا أن ساحل الإسكندرية الأصلي قبل 50 إلى 70 سنة كان مؤلفا من هذه الصخور الجيرية المتشبعة بالمياه المتوافقة مع البيئة الساحلية.


الصخور الجيرية المتشبعة بالمياه المتوافقة مع البيئة عاشت هنا طيلة مئات الآلاف من السنين، وقد توصل العلماء – من بحوث ساند فورد وآركل  قبل 100 سنة وحتى هشام الأسمر قبل 25 سنة– إلى أنها مؤلفة من قاعدة بحرية من صخور بالغة الصلابة تعلوها رواسب رملية بالغة التكتل والاندماج.

ولأن البحر غمر هذه المنطقة وتراجع عنها في آخر 2 مليون سنة من عمر أرضنا المصرية، فإن صخور الإسكندرية الأصلية كانت قد بلغت من النضج والصلابة والتكتل والاندماج ما جعلها تشبه تلك الصخور التي تراها في الصورة والتي تم نقلها من عمق الصحراء. 


ولكننا خلال العقود الخمسة الأخيرة دمرنا الصخور الجيرية الطبيعية في الإسكندرية لصالح بناء العمارات والتوسعات العمرانية من الغرب للشرق وبددنا أرصدة الدفاع الطبيعي، وجئنا اليوم نستدين من الصحراء.


هل تفلح الاستدانة بعد تبديد الأرصدة؟!

كي أجيب على هذا السؤال لابد أن أضع صورة أخرى أخذتها من ساحل الإسكندرية أمس أيضا، ولو فعلت ذلك لأثقلت عليكم، لعلي أفعل ذلك في صباح الغد إن شاء الله.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/