مقدمة في الإبستمولوجيا : تاريخ ومدارس _ الدكتور محمد جلوب الفرحان

كوكب المنى ديسمبر 18, 2022 ديسمبر 18, 2022
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

  مقدمة في الإبستمولوجيا : تاريخ ومدارس _ الدكتور محمد جلوب الفرحان


مجلة أوراق فلسفية جديدة - المجلد الأول - العدد الأول / شتاء 2011 .



تقديم :


تعد الإبستمولوجيات اليوم من أمهات الموضوعات الفلسفية الأكثر حيوية ، والأشد ارتباطاً بالعلم ، وتشابكاً في نسيجه. وإنها المشهد الفلسفي الذي يعكس التبدلات العلمية في البناء المعرفي. وهي فوق كل هذا ، المقياس الذي يكشف عن إنتماء البناء الفلسفي إلى روح العصر . أو بالعكس يعلن عن إندراجه في خانة من خانات التاريخ الثقافي والمعرفي .


وإذا كانت هذه هي حال الإبستمولوجيات ، فإننا نتساءل : أهي نظرية معرفة ؟ أم إبستمولوجيا ؟ نفضل أن تكون الخطوة الأولى ، النظر والتدقيق فيما تحمل كلمة إبستمولوجيا من ناحية الإشتقاق اللغوي . الحقيقة إن الإبستمولوجيا كلمة يونانية الأصل والإصطلاح والتداول الفلسفي ، ومن ثم وجدت طريقها إلى اللغات الأخرى ومنها اللغة العربية خلال عملية الترجمة والتفاعل الثقافي بين اليونان وشعوب الأرض المختلفة .


إن الإبستمولوجيا هي كلمة مركبة من مقطعين أو إسمين :


الأول – إبستمي ويعني المعرفة


الثاني – لوكوس باليونانية (وبالإنكليزية : لوجي) وتعني العلم


فالإبستمولوجيا هي : علم المعرفة (1) . وهي تقليدياً فرع من مضمار الفلسفة ، إنشغل بدراسة طبيعة المعرفة ، وإطار (حدود) المعرفة . وهي تقليدياً تدور حول الأسئلة الأتية : ماهي المعرفة ؟ كيف نكتسب المعرفة ؟ ماذا يعرف الناس ؟ وكيف نعرف ” إننا نعرف ” ؟


حقيقة إن معظم الجدل والنقاش الذي جرى و يجري في هذا الحقل ، يهدف إلى التركيز على تحليل طبيعة المعرفة ، وكيف إن المعرفة مشدودة بنوع من الارتباط بمفاهيم من مثل : الصدق (أي صدق المعرفة) ، والاعتقاد (أي الاعتقاد بالمعرفة) ، والتبرير (أي تبرير المعرفة) . كما وإنها تدرس الوسائل التي تمكننا من إنتاج المعرفة ، والتدقيق في درجات الشك التي تثار حول المزاعم المعرفية المختلفة .


ولما كان من زاوية نظر الباحث على الأقل ، أن مصادر ثقافتنا ومعارفنا المعاصرة تعتمد بنسبة عالية على المتولد من دوائر البحث المكتوب والمترجم إلى اللغة الإنكليزية ، لذلك حسبنا إنه من النافع أن نشير إلى البدايات الأولى لتداول مصطلح الإبستمولوجيا في ديار العم سام ، مع الإشارة إلى من تعود الريادة في إدخال هذا الإصطلاح إلى دائرة الثقافة الإنكلوسكسونية .


لقد كان النصف الأول من القرن التاسع عشر ، هو البدايات التاريخية الأولى لتداول مصطلح الإبستمولوجيا (وليس نظرية المعرفة) في بيئة الثقافة الأنكلوسكسونية . وذلك عندما أدخله الفيلسوف الإسكتلندي جيمس فردريك فريرر (1864- 1808) ، وهو أستاذ الفلسفة الأخلاقية في جامعة سانت أندروز والتي ظل يعمل فيها حتى وفاته . ولعل من أشهر مؤلفاته : كتابه المعنون ” مقدمة في فلسفة الوعي ” والذي كان في حقيقته سلسلة مقالات نشرها مابين العامين 1838 و1839 في مجلة ” بلاك وود ” ، وهو كتاب نقدي للفلاسفة وذلك ” لتجاهلهم الوعي في أبحاثهم النفسية ” . ومن مؤلفاته الأخرى : كتابه “أزمة التأمل الحديث” الذي ظهر في العام 1841 ، وكتابه ” باركلي والمثالية ” الذي صدر في العام 1842 (2) .


بين الإبستمولوجيا ونظرية المعرفة :


ونبدأ الإجابة بإيضاح منهجي في غاية الأهمية ، يساعد في إزالة أللبس في الاستعمال المفهومي غير الدقيق فلسفياً بين اصطلاحي نظرية المعرفة التي جرى تداولها في دوائر تفكير ما بعد النهضة الأوربية وخصوصاً في دوائر التفكير الإنكلوسكسوني ، وما ترجم منه إلى اللغة العربية . والاصطلاح الفلسفي العتيد الإبستمولوجيا أو المعرفيات .


حقيقة إن ما نريد أن نؤكده هنا ، هو إن الترادف المتداول في بعض الكتابات الفلسفية الإبداعية التي أنتجتها أقلام غير متمرنة فلسفياً ، سواء كانت أكاديمية أو غير أكاديمية قد جانبها الصواب من زاوية المصطلح الفلسفي الذي يشكل ألفباء اللغة الفلسفية . وإذا كان الباحث غير الأكاديمي معذوراً ونحمده على جهوده ، فأن الأكاديمي مسؤول والتحري عن الدقة غايته ووسيلته .


على كل إن نظرية المعرفة هي (ثيري أوف نولج) ، والإبستمولوجيا أو المعرفيات هي (الإبستمولوجيا ، وهي كلمتين = علم المعرفة)(3) . وهناك كما يظهر لك فارق كبير بين العلم وهو اصطلاح واسع وشامل الدائرة ، والنظرية التي تشكل طابقاً واحداً من طوابق العلم المتنوعة . والحقيقة أن هناك تحفظاً على تداول الإصطلاح الأول ” نظرية المعرفة ” في دوائر الفكر الفلسفي العلمي وبين أوساط الفلاسفة الناشطون في طوابقه المختلفة . وذلك لأنه اصطلاح لا يعبر بدقة ، وغير مستوعب لمجمل فعاليات دائرة المعرفيات وأدواتها ومستوياتها ومن ثم موضوعاتها …


ولذلك يفضل العاملون في هذا المضمار من الدراسات الفلسفية العودة إلى إصطلاح ” الإبستمولوجيا ” وتفعيله من جديد وإحلاله محل ” نظرية المعرفة ” . وذلك لأن الإبستمولوجيا (أو علم المعرفة) أو علم المعرفيات جمعاً ، هو الإصطلاح الأكثر دقة وشمولية . والقارئ في الأبحاث والدراسات التي تتناول علم المعرفيات ، يجد أن الباحثين يستخدمون اصطلاح الإبستمولوجيا ويضعون بجواره كلمة نظرية المعرفة ، ويضعوها بين هلالين للإشارة إلى تحفظهم على تداول اصطلاح ” نظرية المعرفة ” (4) .


إن نظرية المعرفة تقتصر إصطلاحاً ودلالة على طابق واحد أو جزئية صغيرة من البناء الإبستمولوجي المتعدد والمتنوع الطوابق ، لإنها تدل على الجانب النظري من علم المعرفيات . بينما هناك جوانب (طوابق) أخرى تقع خارج مضمار الجانب النظري ، لا يضمها أو يعبر عنها اصطلاح نظرية المعرفة مثل : موضوع المعرفة ، أدوات المعرفة ، مصادر المعرفة ، المعايير أو ما يسمى ب ” الإستاندرات أو الكريتريات ” (5) ، والموديلات المعرفية ، ومستويات المعرفة ودرجات يقينيتها .


ويجري اليوم في دائرة علم المعرفيات ، لا في حقل نظرية المعرفة ، الحديث عن أنواع من الإبستمولوجيات :


أولاً – الإبستمولوجيات الفلسفية :


وتشمل صوراً من المعرفيات التي ضمها تاريخ الفلسفة اليونانية والفلسفتين الإسلامية والمسيحية . وهي معرفيات عكست بحدود ما مرحلة التطور العلمي يومذاك ، كما ضمت في داخل أبنيتها الكثير الكثير من المفاهيم والتصورات العلمية واستثمرت درجات يقينية النماذج المنطقية والرياضية . إلا أن المعالجة الفلسفية لها كانت من زاوية النفس وقواها أو ملكاتها . وشملت معرفيات غنوصية وصوفية (6) . وقد أنجز الباحث كتابين في هذا المضمار :


الأول- الإبستمولوجيا الفلسفية : تجربة الوافد اليوناني .


الثاني – الإبستمولوجيا الفلسفية : تجربة الرافد العربي .


ثانياً – المعرفيات (الإبستمولوجيات) الحديثة :


وهي مرحلة التأسيس الحقيقي لمسألة المعرفة ، ومن ثم نشوء مذاهب ومدارس معرفية لها ، وهي تضم التفسيمات الكلاسيكية التي كانت متداولة في دوائر المعرفيات وهي :


أ – المعرفيات (الإبستمولوجيات) الحسية :


أو المعرفيات التجريبية وهي نوع من المعرفيات تعتمد ” الحس ” أو ” التجرية ” طريقاً وحيداً لإكتساب المعرفة . وهنا الاستناد جاء على طريق المعرفة وليس على نظرية المعرفة . وقد جاء التأسيس لهذا النوع من الإبستمولوجيات في كتاب ” فرنسيس بيكون ” (1561 – 1626 م) الذي عنوانه ” الأورغانون الجديد ” أي المنطق الجديد . والذي طبع في اللاتينية أولاً في العام 1620 م ، ومن ثم ترجم وطبع بالإنكليزية في العام 1863 م . وإن الأسم فيه إشارة إلى ” أورغانون أرسطو ” . فالأرغانون الجديد عند بيكون هو نظام جديد في المنطق يعتمد الاستقراء بدلاً من الاستدلال . ولهذا كان بيكون يعتقد أن أورغانونه له السلطة العليا على الأورغانون القديم (7) .


وهكذا اختارت الإبستمولوجيات الحسية الاستقراء ، الطريق المنطقي الذي يتجاوب مع هذه التوجهات الحسية التجريبية (8) . كما وإرتبطت هذه المعرفيات بمجموعة من الفلاسفة الإنكليز من أمثال : ” توماس هوبز ” الذي قادته نزعته الأبستمولوجية الحسية التجريبية إلى المادية ، والذي يعد رمزاً من رموز مؤسسيها (9) مع ” جون لوك ” (1632 – 1704) الذي يعتبر من مؤسسي الأبستمولوجيا الحديثة (وإن ظل مقيداً في حدود نظرية المعرفة إصطلاحاً) والذي بحث في أصل المعرفة وكونها تأتي من خلال الحواس . إن كل ذلك جاء في كتابه ” مقالة تتعلق بالفهم الإنساني ” والذي صدر في العام 1690 ، و” دافيد هيوم ” (1711- 1776) الذي تناول المعرفة الحسية وما ارتبط بها من مشكلات تولدت للاستقراء . درس هيوم ذلك في كتابه المعنون ” بحث يتعلق بالفهم الإنساني ” والذي نشره في العام 1748 .


ومن ثم تتوجت بنزعة ” جون ستيوارت ميل ” (1806- 1873) الحسية المتطرفة والتي ظهرت في كتابه المعنون ” نظام علم المنطق ” والذي نشره في العام 1843 (ويتألف من مجلدين) . وقد صاغ فيه المبادئ الخمسة للاستدلال الاستقرائي (والذي عرف بطريقة ستيوارت العلمية) . في حين جاءت نزعته الحسية المتطرفة أكثر وضوحاً في المجلد الثاني ، وذلك عندما أعلن إن ” بديهيات الهندسة هي ليست حقائق فرضية ، وإنما هي حقائق تجريبية ” (10) .


ب – المعرفيات (الإبستمولوجيات) العقلية :


إنه إتجاه معرفي حديث يعتمد ” العقل ” الطريق الوحيد لاكتساب المعرفة . إن هذا الاتجاه ارتبط بنخبة من الفلاسفة العقليين الذين إنتجوا لنا نصوصاً إبستمولوجية في غاية الأهمية في تاريخ الإبستمولوجيا عامة والنزعة العقلية على وجه الخصوص ، كان في طليعتهم الفيلسوف الفرنسي ” ديكارت “(1596- 1650) والذي ركز مشروعه الإبستمولوجي في كتابه المعنون ” تأملات في الفلسفة الأولى ” والذي صدر لأول مرة باللغة اللاتينية في العام 1641 ، ومن ثم ظهرت له ترجمة فرنسية في العام 1647 ، وبعد أكثر من قرن ونصف جاءت الترجمة الإنكليزية (التي قام بها جون فيتش في العام 1901) .


ومن ثم جاء ” باروخ إسبينوزا ” (1632- 1677) وهو من أكبر الفلاسفة العقلانيين ، وقد تأثر بكل من ” إقليدس ” (عاش بحدود 300 ق.م وهو صاحب كتاب الأصول في الهندسة) و” ديكارت ” . وفي أبستمولوجياته كان يتطلع إسبينوزا إلى صياغة مكوناتها على صورة موديل هندسي . وفعلاً نجح إسبينوزا في كتابه ” مبادئ الأخلاق ” في بناء الأخلاق على صورة مصفوفات هندسية تبدأ بتعريفات وبديهيات … (11) . وفي مضمار عمله في الإبستمولوجيات العقلية ، أعتقد إسبينوزا ” في إمكانيته إمتلاك المعرفة الأولية ” ومن ثم حدد ثلاثة أنواع من المعرفة (12) .


وكان الفيلسوف الألماني ” جوتفريد لايبنز ” (1646- 1716) وهو فيلسوف وعالم رياضيات ومنطق . وتوصل إلى اكتشاف ” حساب التفاضل والتكامل ” في الوقت ذاته الذي أعلن فيه ” إسحاق نيوتن ” (1643- 1727) عن اكتشافه هذا النوع من الحساب . وتصاعدت درجات الصراع بين ألمانيا وإنكلترا حول الأحقية بالإكتشاف وأقتربت من إعلان الحرب (13).


ولايبنز سعى بكل جهد إلى تأسيس إبستمولوجياته العقلية على قواعد رياضية ومنطقية ، ومن ثم تطلع إلى صياغة القضايا الإبستمولوجية بلغة الرياضيات الرمزية والملتزمة بقواعد المنطق الرمزي (14) . وقد أعاد هؤلاء الفلاسفة وخصوصاً لايبنز المكانة للاستدلال ، وخاصة الاستدلال الرياضي ، طريقاً لتأسيس المعرفة اليقينية (15).


ج- الإبستمولوجيات النقدية :


إنها اتجاه إبستمولوجي حديث مارس عملية النقد للاتجاهين المعرفيين السابقين (أي نقد للإبستمولوجيا الحسية والعقلية على حد سواء) . ومثل هذه النزعة الإبستمولوجية في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة ، الفيلسوف الألماني ” عمانوئيل كانط ” (1724- 1804) هو فيلسوف ألماني ، وهو آخر الفلاسفة المحدثين ،الذي كان له تأثيراً واسعاً في عموم البيئات الفلسفية الأوربية عامة والإبستمولوجية خاصة (16) .


حقيقة إن تأثير كانط في المضمار الإبستمولوجي على الأقل ، لم يظل محبوساً في إطاره الجغرافي (قارة أوربا) ، أو سجيناً في معاقل عصر الأنوار ، بل تجاوز ذلك وأصبح كانط فيلسوفاً كونياً ، كما وتحول إلى فيلسوف الإبستمولوجيا المتجدد الذي تجاوز إنتماؤه الحدود الزمنية ، فطوت حركة الأهتمام في أبستمولوجياته القرنيين التاسع عشر والعشرين ، وأصبح الاهتمام بكانط شغل دوائر البحث الإبستمولوجي في القرن الحادي والعشرين (والباحث شاهد على اهتمام أقسام الفلسفة وكتاب فلسفة العلوم والإبستمولوجيات في أمريكا الشمالية : كندا والولايات المتحدة الأمريكية) .


اشتغل كانط على ثلاثة عشر مشروعاً في البحث والكتابة قبل أن ينشر كتابه ” نقد العقل النظري الخالص ” ، فقد ظهرت طبعته الأولى باللغة اللاتينية في العام 1781 ، وترجم إلى اللغة الإنكليزية في العام 1838 من قبل ” فرنسيس هايوود ” . وهذا يعني أن عمر كانط يوم صدور الطبعة اللاتينية ، كان سبعة وخمسين عاماً (وهذه هي مرحلة النضوج) . وهو في التقويم الأخير مساهمة كانطية عالية في الإبستمولوجيا (17) .


وفعلاً أن كانط في طرف من كتابه أنتقد الإبستمولوجيا التقليدية : إبستمولوجيا التجريبين والعقليين . وفي طرف آخر ألقى الضوء على النهج الكانطي في تأسيس إبستمولوجيا نقدية . والحقيقة أن مشروع كانط النقدي سعى في جوهره إلى المصالحة بين الإبستمولوجيا التجريبية والإبستمولوجيا العقلية .


لقد أعتقد التجريبيون أن أكتساب المعرفة يكون عن طريق وحيد هو التجربة (أو الحواس) فقط . في حين رأى العقليون أن مثل هذه المعرفة مفتوحة للشك الديكارتي ، وإن العقل هو الطريق الوحيد الذي يوفر لنا مثل هذه المعرفة . جادل كانط التجريبين والعقليين ، ورأى إن استعمال العقل وحده دون الاستعانة بالتجربة سيقودنا إلى الوهم . في حين إن الاعتماد على التجربة وحدها ، ستكون تجربة شخصية تماماً دون إخضاعها إلى العقل الخالص (18) . كما تطلع كانط إلى إصلاح الميتافيزيقا من خلال الأبستمولوجيا .


لقد إختار كانط طريقاً إبستمولوجياً ثالثاً ، طريقا يمنح الحس والعقل على حد سواء دوراً في عملية تكوين المعرفة . إلا إنه لا يؤمن كما آمن الحسيون بأن العقل صفحة بيضاء (جون لوك مثلاً) قبل المعرفة . وإنما هناك أطر عقلية ، وإن المعرفة التي تأتي عن طريق الحس تنتظم وفق تلك الأطر العقلية وهي مثل : الزمان والمكان .. (19) .


ثالثاً- الإبستمولوجيات المعاصرة :


تميز تاريخ الإبستمولوجيات في الحقبة المعاصرة باستمرار المدارس الفلسفية الناشطة في صياغة إبستمولوجيات تعكس توجهاتها الفلسفية . وفي الوقت ذاته شهدت هذه الحقبة إنبثاق ما يعرف اليوم بدوائر الإبستمولوجيات الناهضة على ما توافر في دوائر العلوم المعاصرة ، من أساليب تجريبية تمثلت بأنواع معقدة من أجهزة في غاية التعقيد والتطور سواء في رصد الظواهر الكبيرة في الكون ، أم الظواهر الصغيرة التي لا نراها بالعين المجردة ، وإنما بمساعدة أجهزة في غاية الحساسية والدقة ، وبمصادر التنوير والتكبير العالية .


وفي المقابل تطورت أساليب نظرية عالية تمثلت بأنواع من الرياضيات العالية ، التي تجاوزت حساب التفاضل والتكامل ، والتي انتظمت على صورة مصفوفات رياضية عالية التجريد ، والتي صاحبها تطوير أنواع من المنطق الثلاثي القيم والمتعدد القيم .. وتطوير الاستنباط والاستقراء التقليديين إلى استدلال تجريبي ونظري (20) . إن ما يميز الأبستمولوجيات المعاصرة ، إنها مشروع تعاون بين العلماء والفلاسفة ، وحصيلة تضافر جهودهما المشتركة والتي انعكست في شكل المعرفيات العلمية أو الإبستمولوجيات المعاصرة .


1- إبستمولوجيا الوضعية المنطقية :


تميزت الإبستمولوجيا المعاصرة في إطارها الفلسفي بطعم خاص عكس تنوع مدارسها الفلسفية المعاصرة . فمثلاً كانت هناك مساهمة إبستمولوجية عالية للوضعية المنطقية ، والتي كانت تعرف بالتجريبية المنطقية كذلك . وقد جاءت نتيجة لجهود أعضاء حلقة فينا (21) والتي ضمت مجموعة من علماء الرياضيات ، والعلماء والفلاسفة ، الذين جمعهم هدف واحد ، وهو مناقشة التطورات الحديثة في علم المنطق ، ومن ضمنها مناقشة كتاب فيتجنشتاين (1889- 1951) المعنون : ” رسالة منطقية – فلسفية ” والذي صدر في العام 1922، وكان يقودهم مورتيز شيلك (1882- 1936).


وفيما يتعلق بالإبستمولوجيا المعاصرة ، نود أن نذكر بأن واحداً من أهم مؤلفات شيلك ، كان في مضمار الإبستمولوجيا ، والذي كان بعنوان : ” الأبستمولوجيا والفيزياء الحديثة” والذي صدر في العام 1925. وكذلك كتابه المعنون : ” النظرية العامة للمعرفة” والذي ترجم إلى الإنكليزية في العام 1985 . وبالإضافة إلى شيلك ، ضمت الحلقة كل من كرناب (1891- 1970) ، فيجل (1902- 1988) ، جودل (1906- 1978) ، هان (1879- 1934) ، نيروث (1882- 1945) وويزمان (1896- 1959). وبعد وفاة هان ومن ثم شيلك في العام 1939 ، تفرق أعضاء حلقة فينا ، فرحل بعضهم وأستقر في بريطانيا ، وذهب البعض الآخر إلى الولايات المتحدة الأمريكية .


أن الوضعية المنطقية هي مدرسة فلسفية ، جمعت بين التجريبية (التي تعتمد على الملاحظة في معرفة العالم) والعقلانية التي تشمل البناء اللغوي ذو الطبيعة المنطقية الرياضية والاستدلال الإبستمولوجي . واعتماداً على الكتيب الصادر عام 1929 والذي كتبه كل من نيروث وهان وكرناب ، فأننا نلحظ إن هذا الكتيب قد لخص مبادئ حلقة فينا عامة في حينها ، والوضعية المنطقية في مضمار الإبستمولوجيا خاصة . أن هذه المبادئ تتضمن معارضة لكل أنواع الميتافيزيقا ، خصوصاً الأنطولوجيا والقضايا التركيبية الأولية (التي انشغلت بها الإبستمولوجيا عند كانط) . والحقيقة إن رفض الميتافيزيقا جاء ليس لكونها قضايا خاطئة ، بل لكونها فارغة من المعنى (25) .


واستندت إبستمولوجيا الوضعية المنطقية إلى معيار المعنى الذي يعود في أصوله إلى الكتابات المبكرة لفيلسوف العلم واللغة لودفيغ فيتجنشتاين (أي كتابه رسالة منطقية – فلسفية) . ولعل مما يؤكد عليه معيار المعنى ، هو إن تتم صياغة المعرفة في لغة العلم الإنموذجية . كما وأن هذا المعيار يتطلع إلى إحلال المفاهيم الدقيقة للغة العلم محل مفاهيم لغة الحياة اليومية (23) . إذن معيار المعنى يسعى إلى تطهير الفلسفة والعلم من كل اللغو الذي ساد في تاريخهما العتيد ، والذي سبب سوء الفهم والتنازع ، و كان وراءه الجدل الطويل الذي ضاعت فيه جهود وفرص الفلاسفة والعلماء على حد سواء .


كما وتعتمد إبستمولوجيا الوضعية المنطقية على مبدأ التثبت (أو التحقق) والذي تظهر عليه أثار ما كتبه فيتجنشتاين في الرسالة المنطقية – الفلسفية واضحة كذلك . أن مبدأ التحقق هو الطريق الذي يحدد أن هذه القضية أو هذا السؤال لهما معنى . فمثلاً القضية القائلة : ” أن العالم جاء إلى الوجود قبل فترة قصيرة ” . إن مثل هذه القضية ” لا معنى لها ” من زاوية مبدأ التحقق ، وذلك لأن مثل هذه القضية لا توفر لنا طريقاً ” يثبت بأن هذه القضية صادقة أم لا ” (24).


اتخذ مبدأ التحقق مساراً خاصاً مع الفريد آير ، خصوصاً في كتابه المعنون : ” اللغة : الصدق والمنطق ” والصادر عام 1936. فهو فعلاً مبدأ أو معيار للمعنى ، ولكن ليس عن طريق التحليل اللغوي ، وإنما يكون عن طريق التثبت التجريبي . وحقيقة إن فكرة التحقق ، فكرة قديمة تصعد على الأقل إلى دافيد هيوم والتجريبيين الذين يعتقدون بأن الملاحظة هي الطريق الوحيد الى المعرفة (25) .


واليوم يستعمل مبدأ التحقق بمعنى مبدأ التكذيب الذي ينظر إليه كإمكانية منطقية تسعى إلى تحديد قضية ما بأنها كاذبة ” عن طريق ملاحظة خاصة أو تجربة فيزيائية ” . وإن مبدأ التكذيب لا يعني ” إن شئ ما هو كاذب ، بل إنه يعني إن القضية كاذبة ، وتحتاج إلى برهان على كذبها ” .


ثم أنبرى كارل بوبر (1902- 1994) فرفض اشتراطات مبدأ التحقق في النظر إلى ” معنى القضية ” ، وبالمقابل رأى أن تكون ” القضية تمتلك قابلية على التكذيب ” . وفي فترة لاحقة أوضح بوبر بأن غرضه من مبدأ التكذيب ، لا يسعى مطلقاً إلى تكوين ” نظرية في المعنى ” . وإنما أراد له أن يكون ” معيار منهجي للعلوم ” . وفي واقع الحال ينظر إلى كارل بوبر اليوم على إنه واحد من المشايعين لمبدأ التحقق بدلاً من كونه ناقداً له (26) .


كما تبنى عدد غير قليل من الوضعيين المنطقيين في مضمار الإبستمولوجيا ، ما يعرف ” بنظرية التطابق ” ، وهي النظرية التي دافع عنها فتجنشتاين في رسالته المنطقية الفلسفية . والحق يقال أن بعض الوضعيين المنطقيين من أمثال أوتو نيروث لم يقبلوا بنظرية التطابق ، بل فضلوا نظرية الاتساق (أو الانسجام) والتي ” ترى أن صدق القضية هو اتساقها أو انسجامها مع مجموعة القضايا الأخرى في النظام الذي تنتمي إليه ” والاتساق يعني أن لا تثير القضية أي تناقض في النظام الذي دخلت إليه . والواقع إنه ليست هناك نظرية واحدة في مضمار نظرية الاتساق (أو الانسجام) ، بل هناك وجهات نظر عديدة في مضمارها (27) .


ونعود إلى نظرية التطابق في مضمارها الإبستمولوجي من زاوية الوضعيين المنطقيين المشايعين لها . فهذه النظرية ترى إن صدق قضية ما أو كذبها يتقرر من خلال علاقتها بالعالم الخارجي أو مدى نجاحها في وصف العالم الخارجي (أو تطابقها معه). ونظرية التطابق تتعارض مع نظرية الاتساق ، والتي ترى إن صدق قضية ما أو كذبها يعتمد على علاقتها مع القضايا الأخرى بدلاً من علاقتها مع العالم الخارجي (28).


وتزعم نظريات التطابق في مضمارها الإبستمولوجي ، إلى أن الاعتقاد يكون صادقاً أو القضية تكون صادقة بمقدار تطابقهما على الموضوعات والأشياء الواقعية . وهذا النمط من النظريات يفترض وجود علاقات بين الأفكار والقضايا من طرف ، وبين الأشياء والوقائع من طرف آخر . ويصعد الشكل الإبستمولوجي لنظرية التطابق ، على الأقل ، إلى فلاسفة اليونان الكلاسيكيون سقراط ، إفلاطون وأرسطو ( والثلاثة يشكلون طرفاً من مكونات كتابنا المعنون : تجربة الوافد في مضمار الإبستمولوجيا الفلسفية). وتعتقد هذه النظريات إن الصدق أو الكذب يتقرران من خلال ارتباطهما(أو عدم ارتباطهما) بالحقيقة أو وصفهما (أو عدم وصفهما) للحقيقة بدقة . وهناك أنواع من نظريات التطابق (29) :


أولاً- التطابق بالمعية (أي أن شيئان يحدثان معاً) . يرى الفيلسوف البريطاني برتراند رسل (1872 – 1970) ، لكي تكون القضية صادقة ، ينبغي أن تتماثل في بنيتها وبنية موضوعات العالم الخارجي ، والتي تجعل منها قضية صادقة . والمثال الذي قدمه رسل ، هو المثال القائل : ” القطة (توجد) على البساط ” هي صادقة ، إذا وفقط إذا كان هناك في العالم الخارجي ؛ قطة وبساط ، وإن القطة مرتبطة بالبساط من خلال وجودها على البساط . وإذا غاب أي من هذه المكونات الثلاث ( القطة ، البساط ، والعلاقة بينهما والتي تتطابق بالتتابع : الموضوع والمحمول وفعل القضية) فأن القضية تكون كاذبة (30).


ثانياً- التطابق بالترابط العلاقي ؛ يعد فيلسوف اللغة البريطاني جون لانكشو أوستن (1911- 1960) هو المنظر لهذا النوع من التطابق (وله كتابان صدرا بعيد وفاته ، الأول – أوراق فلسفية والذي ظهر بنشرة اكسفورد عام 1961 . والثاني – كيف تعمل الأشياء بالكلمات والذي صدر من أكسفورد في العام 1962) ، فقد ذهب إلى إننا لا نحتاج إلى تركيب فيه توازي بين صدق القضية وموضوعات العالم الخارجي التي تمنحها الصدق . وإنما كل ما في الأمر ، هو البعد السيمانطيقي (بعد المعنى) للغة التي نستخدمها في التعبير عن القضية ، وهذا البعد السيمانطيقي هو الذي يركز على العلاقات الترابطية الكلية للقضية التي ترتبط بموضوعات العالم الخارجي . وإن كذب القضية حسب رأي أوستن ، عندما لا تكون واحدة من هذه القضايا موجودة (31).


2- إبستمولوجيا البراجماتية :


انبثقت البراجماتية ، موجة فلسفية تحمل إعلاناً إبستمولوجياً تجريبياً (حسياً) في نهايات القرن التاسع عشر ، وبالتحديد في النادي الميتافيزيقي ، فيما بين عامي 1872 و 1874 ، وهو النادي الذي كان كل من “تشارلز ساندروز بيرس” (1839- 1914) و”وليم جيمس” (1842- 1910) يمثلان من بين أعضائه الأتجاه الأبستمولوجي التجريبي في الفلسفة في مقابل الاتجاه الإبستمولوجي الميتافيزيقي المثالي الذي كان يمثله أغلب أعضاء النادي .


وقد قدم بيرس في النادي بحثاً إبستمولوجياً متفرداً ، نشر فيما بعد في مقالين :


الأول – بعنوان ” تثبيت الاعتقاد ” الذي ظهر في العام 1877


الثاني – بعنوان ” كيف نوضح أفكارنا ” الذي صدر في العام 1878


وهما المقالان الإبستمولوجيان ، اللذان أعلنا عن ظهور حركة فلسفية إبستمولوجية جديدة هي ” البراجماتزم ” (32) .


أن اختيار بيرس للإصطلاح براجماتزم ، لم يكن اختياراً عفوياً ، بل جاء انتخاباً مدروساً من الزاوية الإبستمولوجية . وذلك من حيث إن كلمة براجماتزم ، جاءت جواباً إبستمولوجياً على السؤال الإبستمولوجي الذي رفعه بيرس بداية واستهلالاً . فقد تساءل بيرس : ما معنى الفكرة ؟ وما معنى العبارة ؟ ومتى يكون للفكرة معنى ؟ ومتى تكون العبارة صادقة ؟ ومتى يجوز لنا أن نتكلم عن العبارة بوصفها معبرة عن فكرة ما ؟ ومتى لا يجوز ؟


جاء جواب بيرس واضحاً ومباشراً ، مؤكداً على إن ” الفكرة هي ما تعمله ” ، وهذا يعني أن معنى الفكرة مرتبط بقوة بالنتائج والآثار العملية المترتبة عليها . ولهذا التوجه الإبستمولوجي الناهض على العمل والنتائج العملية التي تفضي إليها الفكرة ، إنتخب بيرس لطريقه الفلسفي كلمة براجماتزم ، وهي في حقيقتها مشتقة من لفظة براكتس التي تدل على الممارسة والفعل ، وهي في أصلها مشتقة من اللفظ اليوناني ” براجما ” الذي يدل على الفعل أو العمل (33) .


ونحسب أن كل هذا الكلام ، يحملنا على القول بإن براجماتية بيرس على الأقل ، هي إبستمولوجيا الفعل أو إبستمولوجيا العمل . وفي مضمار تقويم إنجاز بيرس ، وقف الفيلسوف الأمريكي بول ويس (1901- 2002) مراجعاً ما أنجزه بيرس في مضماري الفلسفة والمنطق الأمريكيين ، فقال : ” إن بيرس هو الأكثر أصالة بين الفلاسفة الأمريكان ، وهو في الوقت ذاته من أعظم علماء المنطق الأمريكان ” (34) . هذا صحيح كل الصحة إذا راجعنا ما كتبه بيرس في مجالي الإبستمولوجيا العملية ، والإبستمولوجيا الرياضية والمنطقية.. وصحيح جداً إن كل ماتركه بيرس من أعمال مكتوبة هي مقالات ومحاضرات . وإن الكتاب الوحيد الذي حمل إسمه ، هو ” دراسات في علم المنطق ” (1883) ، فقد كان هو الناشر والمؤلف لفصول بنفسه ، في حين كتب طلبته فصولاً أخرى . وترك مخطوطات لم تنشر تجاوزت صفحاتها (100000) صفحة ، ما عدا ما نشره هوسر تحت عنوان ” أوراق بيرس ” (35) .


كتب بيرس في مضمار الإبستمولوجيا العملية ، مقاليه سابقي الذكر :” تثبيت الاعتقاد” و”كيف نوضح أفكارنا” واللذان حملا الإعلان الإبستمولوجي للبراجماتية . ولكن والحق يقال إن بيرس نشر مقالاً إبستمولوجياً في غاية الأهمية ، قبل هذين المقالين وبالتحديد في العام 1868. وكان بعنوان ” أسئلة متعلقة بملكات الإنسان ” ، وهو بتقديرنا المقال الإبستمولوجي المفتاح لعمل بيرس عامة والإبستمولوجيا البراجماتية خاصة . ومن ثم تلاه في السنة ذاتها صدور مقاله الرافض للإبستمولوجيا الديكارتية والذي كان بعنوان “بعض نتائج العجز ” والذي جادل فيه طبيعة أن ” العام حقيقي ” .


وبعد عشر سنوات وبالتحديد في العام 1878 نشر مقالاً بعنوان ” نظام الطبيعة ” . ومن ثم نشر سلسلة مقالات تدور في مضمار إبستمولوجيا البراجماتية ، منها : مقال بعنوان “اختلافات صغيرة حول الحواس ” في العام 1884 ، ومقاليه : ” عمارة النظريات ” الذي نشره في العام 1891 و ” مبادئ الضرورة ” الذي ظهر في العام 1892 .


وفي عام 1903 جاءت محاضراته في جامعة هارفارد حول البراجماتية والتي دافع فيها عن الأساس الإبستمولوجي للبراجماتية . وتبعها ثلاث مقالات راجعت الأساس الإبستمولوجي للبراجماتية وعرضت تفاصيل إضافية كما ودافعت عن الإطار البراجماتي للإبستمولوجيا ، وهي : ” ما هي البراجماتية ” في العام 1905 و ” قضايا البراجماتية ” في العام 1905 ومن ثم ” دفاع عن البراجماتية ” في العام 1906(36) .


أما في مضمار الإبستمولوجيا الرياضية ، فقد تفردت كتاباته بالأصالة والإبتكار وذلك لكون بيرس واحداً من علماء الرياضيات ، ومن هنا تأتي أهمية أبحاثه في هذا الميدان . كان أول عمل نشر له بعنوان ” منطق التناسب ” والذي ظهر إلى النور في العام 1870 ، ودرس فيه نظرية العلاقات . ومن ثم جاءت محاضراته ومقالاته التي حملت عنوان “إيضاحات حول منطق العلم” في الفترة (1877- 1878) والتي ركز فيها على البراجماتية والإحصاءات .


وتتوجت جهوده في مضمار الرياضيات بظهور عمله المعنون ” الرياضيات المبسطة ” في العام 1902 . واشتغل في الرياضيات البحتة ، وفي الأسس المنطقية للرياضيات ، وفي الجبر الخطي وموضوعات هندسية متنوعة . وترك بيرس مخطوطة مهمة في ميدان الرياضيات بعنوان ” مبادئ جديدة للرياضيات من وجهة نظر أصيلة ” . وفي العام 1976 صدرت بعنوان “مبادئ جديدة للرياضيات” (37) .


وفي حقل الإبستمولوجيا المنطقية ، فقد درس موضوعات رائدة شكلت مضمار التحديث في علم المنطق والتجديد في نظام إشاراته (العلامات أو الرموز) . في الحقيقة بدأ بيرس بحثه في علم المنطق وإبستمولوجياته ، في وقت مبكر ، فأولى محاضراته ومقالاته تصعد إلى العام 1869 . والتي جاءت بعنوان ” أسس سلامة القوانين المنطقية” ومن ثم تلتها سلسلة محاضراته في هارفارد حول ” علماء المنطق البريطانيون ” وكانت للفترة من 1869 وإلى 1870 . وفي هذه السنة ذاتها ظهرت رائعته المعنونة ” وصف لنظام الإشارات (العلامات) الخاصة بمنطق العلاقات ” والتي هي جزء مما يعرف بنظرية السيموطيقا عند بيرس .


وتحول بحثه نحو جرف آخر من الاهتمام المنطقي . فظهرت في العام 1878 مقالته المتميزة ، بعنوان ” احتمالية الاستقراء ” . وتلتها في السنة ذاتها ، مقالته في ” الاستنباط ، الاستقراء والفرضيات ” . ومن ثم جاءت محاضراته في المنطق في جونز هوبكنس للفترة من 1879 وإلى 1884 . وفي العام 1880 صدرت رائعته الرائدة في “جبر المنطق” . ومن ثم أخذت مقالاته المنطقية بالرواج بين المختصين والقراء ، منها : ” نظرية الإستنتاج الإحتمالي ” في العام 1883 ، و” حول جبر المنطق : مساهمة في فلسفة الإشارات ” في العام 1884 ، و” قانون العقل ” في العام 1892 ، و ” محاضرات في الاستدلال ومنطق الأشياء ” في العام 1898 بدعوة من وليم جيمس في كيمبريدج . ومن ثم جاءت ” القاعدة الأولى للمنطق ” في العام 1899 والتي كانت ضد معوقات البحث . وفي العام 1903 قدم ” محاضرات لول ومفردات علم المنطق” (38).


ولعل خير ما نختتم هذا المضمار الإبستمولوجي ، الإشارة إلى إن الأبحاث المنطقية قادت بيرس إلى تطوير نظرية في الإشارات (السيموطيقا) والتي تتألف من جهاز واسع من مفاهيم الإشارات وعمليات إستنتاجها (39) .


كما و نحسب إن البراجماتية من الزاوية الإبستمولوجية ، هي نظرية في الصدق، والتي هي في مجملها مجموعة ” تفسيرات ” و ” تعريفات ” و ” نظريات ” لمفهوم الصدق . وحقيقة إن هناك إجماعاً براجماتياً بين بيرس وجيمس و جون ديوي (1859- 1952) على إن البرجماتية في سماتها العامة( نظرية في الصدق) هي :


أولاً- أن البراجماتية هي مجموعة وسائل تهدف إلى توضيح معاني المفاهيم المتشاكلة ، ومنها بشكل خاص مفهوم الصدق ذاته .


ثانياً- إن الحقيقة بالمنظار البراجماتي ، هي ” منتوج ” ذات طبيعة متنوعة ، والذي يكون على شكل : اعتقاد ، يقين ، معرفة أو صدق . وإن كل هذا حاصل نتيجة لعملية البحث (الذي يهدف إلى توسيع المعرفة ، وحل مسألة الشك ، وفي الوقت ذاته إيجاد حل للمشكلة موضوع البحث) (40) .


بعد هذا نسعى إلى تحديد معيار الصدق البراجماتي عند البراجماتيين الثلاثة . فمثلاً لفهم معيار الصدق عند بيرس ، يتطلب منا الإشارة إلى إن تفكير بيرس لا يمكن فهمه دون معرفة رأيه في ” طبيعة التفكير والأفكار ” . إنه يرى إن ” كل الأفكار هي إشارات” . ماذا يعني هذا الكلام ؟ إنه يعني بصورة واضحة إن تفكير بيرس ” لا يمكن فهمه خارج إطار علاقات الإشارات ” (41) . وإن علاقات الإشارات في حقيقتها هي موضوع نظرية الإشارات . وإن نظرية بيرس في السيموطيقا ، هي نظريته في علاقات الإشارات ، والتي هي المفتاح الأساس لفهم فلسفته البراجماتية (42) .


لقد حدد بيرس الصدق ، في مقال له يصعد إلى العام 1901 وكان بعنوان: ” الصدق والكذب والخطأ ” وبالشكل الآتي :


الصدق هو اتفاق (أو انسجام) القضية المجردة مع الحدود المثالية للبحث العلمي المستمر والهادف إلى توفير الاعتقاد العلمي . وإتفاق القضية المجردة ربما يتم الوصول إليه عن طريق الإعتراف بأن عدم دقتها من بعض الأوجه ، هو المكون الأساس للصدق (43) .


بينت هذه العبارة وجهة نظر بيرس التي تؤكد على إن ” أفكار المقاربة ” و ” عدم الكمال ” و” الجزئية ” والتي عبر عنها في مكان أخر ” بإمكانية الخطأ ” و ” الإحالة إلى المستقبل ” هي أساسيات مفهومه للصدق . كما واستخدم في مناسبات مختلفة كلمات من مثل : الانسجام والتطابق وذلك لوصف وجه من وجوه براجماتية ” العلاقة بين الإشارات ” . ومن طرف أخر فقد قال بيرس : ” أن تعريفات الصدق تقوم على التطابق الذي ليس هو أكثر من التعريف الأسمي ” ، وبيرس في هذا المجال تابع التقليد الفلسفي الطويل الذي يرد التعريف الإسمي إلى مستوى ليس أكثر من التعريفات الحقيقية . ولنقف نستمع إلى ما يقوله بيرس :


إن ذلك الصدق هو تطابق الصورة مع موضوعها ، وهو كما قال كانط ، مجرد التعريف الأسمي لها . والصدق يرتبط بالقضايا فقط . والقضية تتألف من موضوع (أو مجموعة موضوعات) ومن محمول . ولما كان االموضوع هو إشارة ، والمحمول هو بدوره إشارة . فالجملة هي إشارة تتألف من ذلك المحمول الذي هو إشارة ومن المحمول الذي هو إشارة كذلك . وإذا كانت الجملة بهذا الشكل فهي صادقة . ولكن : ماذا يعمل هذا التطابق والإحالة إلى الإشارة ؟ إنه الانسجام في القضية (انسجام إشارة المحمول مع إشارة الموضوع وهما مكونات القضية : بين قوسين توضيح من الباحث) (44) .


وخلاصة الموقف عند بيرس ومن خلال عبارته السابقة ، هو إنه كشف عن العلاقة بين التعريف البراجماتي للصدق وواحدة من نظريات الصدق العتيدة ، والتي ترى ” إن الصدق بشكل وحيد وبسيط ، هو تطابق الصور مع موضوعاتها ” . والحقيقة إن بيرس هنا حاله حال كانط ، فقد اعترف بالتمييز الذي وضعه أرسطو ” بين التعريف الأسمي والتعريف الحقيقي ” . والتعريف الأسمي في حقيقته كشف عن ” وظيفة المفهوم ، ودور العقل في الإدراك ، كما إنه يدل على جوهر الموضوع ” . إن هذا الموقف يحملنا على القول : ” أن بيرس كان مولعاً جداً بنظرية التطابق في الصدق ” (45) .


وأما الفيلسوف البراجماتي وليم جيمس ، فقد تميز بمفهومه الخاص لمعيار الصدق البراجماتي . ونحسب أن تكون البداية الإشارة إلى تراث جيمس الفلسفي ، وخصوصاً تراثه الذي درس فيه المعيار البراجماتي للصدق . أولاً أن جيمس جاء من ميدان الطب والفيزيولوجيا والبايولوجيا إلى مضمار علم النفس ومن ثم استقر في مرابض الفلسفة . كان أول فصل درسه في جامعة هارفارد ، هو علم النفس التجريبي للسنة الأكاديمية (1875- 1876) . وخلال عمله في هارفارد أنضم إلى بيرس في العام 1872 في المناقشات الفلسفية التي جرت تحت مظلة النادي الميتافيزيقي . كان أول عمل نشره جيمس ، هو كتابه المعنون ” مبادئ علم النفس ” والذي صدر في العام 1890 (ويتألف من مجلدين) (46) .


أما أهم مؤلفاته الفلسفية فهي : إرادة الاعتقاد (1897) ، الخبرة الدينية : دراسة في الطبيعة البشرية (1902) ، عالم الخبرة (1904) ، البراجماتية (1907) ، الكون المتعدد 019099 ، بعض مشكلات الفلسفة (1911 توفي ولم يكمله) ، مقالات في التجريبية الراديكالية (1912) ومؤلفات أخرى . وفي مضمار معيار الصدق البراجماتي ، فقد نشر جيمس في العام 1907 فصلاً بعنوان : المفهوم البراجماتي للصدق ، ضمه إلى كتابه البراجماتية ، وفي العام 1909 نشر كتابه المعنون : معنى الصدق .


أخذت إبستمولوجيا نظرية الصدق البراجماتية عند جيمس ، بعداً جديداً ، فيه طعم جديد مختلف بالتأكيد عما هو عليه عند مؤسس البراجماتية بيرس . فمثلاً وليم جيمس في محاولته تحديد العقائد الصادقة ، أكد على إنها ” تلك العقائد التي ثبتت إنها نافعة للمؤمن بها ” هذا طرف . والطرف الثاني إن نظريته البراجماتية للصدق ، هي نظرية تركيبية ، جمعت بين نظرية التطابق ونظرية الإتساق (أو الانسجام) مع بعد إضافي ، وهو ” إن الصدق ممكن التحقق منه خلال الأفكار والقضايا التي تطابق الأشياء الواقعية ” إضافة إلى ربطها سوية ” بحيث تتسق معاً ، كما هو الحال في أجزاء لغز متفرقة ، ينبغي أن تنسجم سوية” وإن هذه الأفكار ممكن التحقق منها عن طريق النتائج الملاحظة أثناء تطبيقات الفكرة في مضمار التجريب الواقعي (47) . ونلحظ في كتابات جيمس الإبستمولوجية صدى لمبدأ الوضعية المنطقية في التحقق أو التثبت .


أما جون ديوي فقد فضل تعريف بيرس للصدق ، ففي كتابه المعنون المنطق : نظرية البحث ، والصادر في العام 1938 ، جاء خال من أي مناقشة للمعيار البرجماتي للصدق . إلا إنه في هامش واحد قال : إنه ” يفضل تعريف الصدق من الزاوية المنطقية ، الذي قدمه بيرس ” (48) .


هوامش البحث :


1- أنظر :


Encyclopaedia of Philosophy, Macmillan 1967 Vol. 3


2- أنظر :


Chisholm, Hug. “Ferrier, James Frederick“, Encyclopaedia Britannica (Eleventh Ed.) CambridgeUniversity Press 1911


3- أنظر :


Woozley. A. D, Theory of Knowledge: An Introduction, London 1950, pp 8-10


4- أنظر :


Knowledge and Belief, In Encyclopaedia of Philosophy, London 1967, V. 4, pp 245 – 246


5- أنظر :


Popkin. R, Philosophy, made simple, London 1969, pp 177-178


6- أنظر :


- محمود زيدان ؛ نظرية المعرفة عند مفكري الإسلام وفلاسفة الغرب المعاصريين ، ط1 ، بيروت 1989


- محمد غلاب ؛ المعرفة عند مفكري الإسلام ، القاهرة (بلا تاريخ)


7- أنظر :


Hesse. M .B, Francis Bacon’s Philosophy of Science, In A Critical History of Western Philosophy, ed. J. O’Conner, New York 1964, pp 141 – 152


8- أنظر :


Popkin R, Op. Cit, p. 186


9- أنظر:


Clarence. H. Bradford, An examination of Thomas Hobbes’ Theory of Knowledge, Chicago 1956


10- أنظر :


Anthony Kenny; the Rise of Modern Philosophy, Oxford, 2006


11- أنظر :


Jonathon Bennett, A study of Spinoza’s Ethics, Hackett, 1984


12- Edwin. Curley, the Collected Works of Spinoza, PrincetonUniversity Press 1985


12- أنظر :


Hall, A. R., Philosophers at War: The Quarrel between Newton and Leibniz, CambridgeUniversity Press 1980


13- أنظر :


Rutherford, Donald, Leibniz and Rational Order of Nature, CambridgeUniversity Press 1998


14- أنظر :


Ibid,


15- أنظر :


Popkin. R, Op. Cit, p. 190


16- أنظر :


Carne Brinton. “Enlightenment”, Encyclopaedia of Philosophy, Macmillan 1967, Vol. 2, P.519


17- أنظر :


Kant, Critick (Critique) of Pure Reason, Trans. By Francis Haywood, 2 ed. London 1848


18- أنظر :


Hartnack, Justus, Kant’s theory of Knowledge: An Introduction to the Critique of Pure Reason, Hactett publishing 2001


19- أنظر :


Kant, Op. Cit, pp 29 – 31, pp 23 – 28


20- أنظر :


- Ayer. A. J, the Problem of Knowledge, London 1933


- Popper. K, Objective Knowledge, London 1972


21- أنظر:


محمد جلوب الفرحان ؛ الفكر الألماني المعاصر ، الفصل الثالث المعنون : رودلوف كرناب: فيلسوف العلم وعالم المنطق المعاصر ، القسم السابع : كرناب والإتجاهات الفلسفية لحلقة فينا (موجود على موقع الفيلسوف) .


22- أنظر مقال كرناب المعنون : إقصاء الميتافيزيقا ، عند :


Ayer, A. J. Logical Positivism, New York 1959, pp 60 – 80


23- أنظر :


Sarkar, Sahotra. Logical Empiricism at its peak, New York 1996, p. 38


24- أنظر :


A J Ayer, Language, Truth and Logic, 2nd with an important new Introduction, 1946


25- أنظر :


Ibid


26- أنظر :


Bryan Magee, Popper, Modern Masters Series, 1973


27- أنظر :


Benjamin, A. Cornelius, Coherence Theory of Truth, 1962


28- أنظر :


Kirkham, Richard L. Theories of Truth: A Critical Introduction, Cambridge 1992


29- أنظر :


Arthur. Prior, Correspondence Theory of Truth, Encyclopaedia of Philosophy, Macmillan 1969, Vol.3


30- أنظر :


Kirkham, Op. cit, section 4.2


31- أنظر :


Pitcher, George. “Austin: personal memoir”. Essay on J. L. Austin, ed. IsaiahBerlin et al. Oxford 19730


32- أنظر :


محمد جلوب الفرحان ؛ الخطاب الفلسفي التربوي الغربي ، الشركة العالمية للكتاب ، بيروت 1999 ، ص ص 147 – 148


33- أنظر :


Peirce. C.S, How to make our Ideas Clear, Collected Papers, HarvardUniversity press 1959


34- أنظر :


Weiss, Paul “Peirce, Charles sanders” in the Dictionary of American Biography, Published by Charles Scribner’s sons 1934


35- أنظر :


Houser, Nathan, “The Fortunes and Misfortunes of the Peirce’s Papers, Perpignan 1989


36- أنظر :


Peirce, C.S., Writings of Charles S. Peirce, a Chronological Edition, IndianaUniversity


(ظهر منها ثمانية مجلدات ، والمجلد الثامن صدر في العام 2009 ويتألف من 824 صفحة) .


37- أنظر :


Peirce, C.S., The New Elements of Mathematics, 5 volumes, Ed. By Carolyn Eisele, Mouton Publishers 1976


(المجلد الأول في علم الحساب ، الثاني في الجبر والهندسة ، الثالث أوراق رياضية ، الرابع كتابات رياضية والخامس في فلسفة الرياضيات . ويتألف مثلاً المجلد الخامس من 393 صفحة) .


38- أنظر :


Peirce, C. S., Collected Papers, Eds. By Charles Hartshorne and Paul Weiss, Cambridge 1931- 1935


وضمت ثمانية مجلدات ، وما خص علم المنطق فهي ؛ المجلد الثاني والذي كان بعنوان أصول المنطق ، والذي نشر في العام 1932 ، والمجلد الثالث والذي كان بعنوان المنطق الدقيق والذي صدر في العام 1933.


39- أنظر :


Peirce, C. S., Semiotic and Signifies: Correspondence between C. S. Peirce and Victoria Lady Welby, Ed. By Charles S. Hardwick, IndianaUniversity Press 1977


40- أنظر :


Pragmatic Theory of Truth, Encyclopaedia of Philosophy, Macmillan 1969, Vol. 6


41- أنظر :


Deledalle, Gerard, C. S. Peirce’s Philosophy of Signs, Indiana University Press 2000


42- أنظر الكتاب الممتاز الذي عالج موضوع العلاقة بين نظرية بيرس في السيموطيقا والبراجماتية :


Fisch, Max, Peirce, Semeiotic and Pragmatism, IndianaUniversity Press 1986


وأنظر كتابنا : الفكر الألماني المعاصر ، الفصل الثالث والذي كان بعنوان : رودلوف كرناب : فيلسوف العلم وعالم المنطق المعاصر . تناولنا فيه نظرية السيموطيقا (النظرية العامة للغة) وأقسامها . موجود على موقع الفيلسوف


43- أنظر :


Peirce, C. S., “Truth and Falsity and Error”, Collected Papers, Vol.5, p. 565


44- أنظر :


Ibid, p. 553


45- أنظر :


Pragmatic Theory of Truth, Op.Cit, Vol.5


46- أنظر :


Duane P Shultz, a History of Modern Psychology, Wordsworth 2004, p. 179


47- أنظر :


Pragmatic Theory of Truth, Op. Cit, Vol. 6, pp 427- 428


48- أنظر :


Dewey, John, Logic: Theory of Inquiry, New York 1938, p. 407

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/