المتبول والمبتول في الشعر والجغرافيا والتصوف ! ا.د. عاطف معتمد

كوكب المنى يناير 31, 2022 يناير 31, 2022
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

 المتبول والمبتول في الشعر والجغرافيا والتصوف ! ا.د. عاطف معتمد



هذه هي المرة الثالثة التي أكتب عن قصيدة "بانت سعاد". في كل مرة أتلمس فيها ذلك الخيط السحري الذي يجمع الشعر والمكان. وإن أردتم الحق ليست القصائد إلا مغاوير لخيال المكان وتجلياته. ورغم أن قصيدة "بانت سعاد" مر عليها أكثر من 1400 سنة إلا إن واحدة من عجائبها أنها ما تزال صالحة إلى اليوم في عام 2022، وسأثبت لك ذلك في السطور التالية.

في الخريطة المرفقة وعند التقاء شارع "كلوت بك" مع شارع الجلاء كان يوجد ضريح لشيخ صوفي اسمه "سيدي المتبولي". اختفى الضريح الآن، وربما جاء ذلك على الأرجح بسبب التوسعات والهدم والإزالة والتطوير في ميدان "باب الحديد" (ميدان رمسيس حاليا)  طيلة 130 سنة مضت. 


أقول 130 سنة لأن تلك هي الفترة التي تفصلنا عن المرجع الذي عدت إليه والذي كتبه على باشا مبارك تحت عنوان "الخطط التوفيقية"، والخطط (أي الأحياء) تحمل تيمنا اسم الخديوي "توفيق" الذي تولى السلطة بين عامي 1879 و 1892 ومنح على باشا مبارك وظائف مرموقة وامتيازات جمة.

شهدت الفترة التي تولى فيها توفيق حكم مصر ثورة عرابي والاحتلال الإنجليزي في عام 1882، وستكتشف هنا بكل وضوح ودون مواربة أن على باشا مبارك يقدح ويذم في ثورة عرابي ويحملها الخطأ الأكبر ويقف بالطبع بجوار الخديوي توفيق. 


يخبرنا على باشا مبارك بوجود ضريح "سيدي المتبولي" عند بداية شارع كلوت بك من ناحية قنطرة الليمون. لم يتغير اسم شارع كلوت بك لكن شارع "سيدي المتبولي" أصبح اليوم "شارع الجلاء". وهو أمر غريب حقا.

إذا كنا قد اتفقنا في مقال أمس على أن هناك بعض مبررات لتغيير شارع "الملكة نازلي" إلى شارع رمسيس فما هو مبرر تغيير شارع "سيدي المتبولي" إلى شارع "الجلاء" هل كان سيدي المتبولي داعية للاحتلال الإنجليزي مثلا؟!

 على الأرجح أن التغيير جاء تمشيا مع الحداثة الشكلية بالتخلص من تراث الأضرحة الذي لم يعد يليق بالمدينة "العصرية"، خاصةأن هناك العديد من الأضرحة دون رفات لأصحابها، واسم سيدي المتبولي نفسه يتكرر أكثر من مرة في القاهرة القديمة سواء في اسم ضريح أو زاوية ومن دون المؤكد وجود رفاته في أي منها..

وبعد إزالة الضريح من أجل التوسعات في محطة سكة حديد مصر صار من المتوقع تغيير اسم الشارع وإلا تساءل الناس أين ضريح ذلك الشيخ الذي يحمل الشارع اسمه.


 نعود إلى قصيدة "بانت سعاد" وستلاحظ هنا أننا بدأنا نمسك بخيط رفيع بين اسم "المتبولي" وافتتاح القصيدة التي يقول فيها الشاعر:

بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ♦️مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ


وكما ترى فإن سعاد حين بانت (غابت وبعدت) صار القلب "متبولا" أي أصابه الضعف والوهن. 

ويرى البعض أن القلب هنا قد يشير إلى العقل أيضا بمعنى ذهابه وضياعه فيمسي صاحبه ضعيف العقل مجنونا، تماما كما نقول مجنون ليلى الذي فقد عقله بعد أن هام بها شوقا وخبلا. 

ولأن هناك تشابها كبيرا بين عشق المحبوبة والحب الصوفي الإلهي فإن بعض الصفات يحملها أقطاب الصوفية، والشيخ الـ "متبول" هو ذلك الذي تعلق قلبه بالحب الإلهي فصار "متيما" أي ذليلا ضعيفا علاوة على أنه أصبح مقيدا "مكبولا" لم يفده أحد بأي فداء من أسر الحب الإلهي. 


النسخة التي عدت إليها في شرح قصيدة بانت سعاد هي لابن هشام وهو لا يركز فيها على الصور الأدبية والتفسيرات البلاغية كما فعل السيوطي (اللاحق عليه والمعتمد عليه لدرجة الانتحال!)  بل يركز ابن هشام على الحالات النحوية والإعرابية وجذور الكلمات. وبالتالي جاء لنا بأصل آخر للكلمة وقال إن "متبول" تكتب على صيغة "مبتول" بمعنى الشيء المنقطع.


ما زلنا في نفس السياق، المحب  "المبتول" هو الذي ينقطع لمحبوبه عن سائر الحياة، والصوفي الذي ينقطع إلى عبادة ربه يصبح "مبتولا" عما سواه بمثل ما يصبح "متبولا" في حبه. 

وسأسمح لنفسي – من دون مرجع أوسند أو بحث سابق -  أن أفترض أنه ربما جاء من هنا صفة المتبول ومنها المتبولي الذي حرف في العصر الحديث إلى "المدبولي".


وطالما سمحت لنفسي بالافتراض فسأسمح لنفسي بالاعتقاد أن هذا الشيخ الصوفي المعروف من قرون طويلة في القاهرة اشتهر بالانقطاع للحب الإلهي وهي الصفة التي نعرفها في طرق صوفية أخرى عديدة تحمل نفس مسمى الانقطاع مثل "الخلواتي" ( من الانقطاع في الخلاء بعيدا عن الناس) والريشي (كأن يكون قلبه معلقا في الهواء مع الحب الإلهي) والـ "غريب" ومشتقاتها في "مغيرب" الذي كتبت عنه من قبل في الواحات الخارجة، وصفات الغريب والمغيرب هي أيضا من الابتعاد والغربة وعدم مخالطة الناس.


وقد ذهبت بعض الكتبات التي لا مرجع لها إلى أن الشيخ المتبولي الذي كان له أضرحة وزوايا في القاهرة هو مهاجر من بلدة "متبول" الواقعة إلى الشرق تماما من مدينة كفر الشيخ في شمال الدلتا المصرية.

وقد هداني ذلك إلى العودة إلى مرجعنا العظيم عن أسماء البلاد المصرية للعلامة محمد رمزي فوجدته كتب سطرين عن بلدة "متبول" التي تحدث عنها الشريف الإدريسي قبل 900 سنة وتحدث عنها ابن مماتي قبل نحو 800 سنة وجاءت عندهما وعند غيرهما بكلا الاسمين: "متبول" و "مبتول".


وتواتر اسم البلدة عند الإدريسي وابن مماتي بالرسمين يعيدنا إلى شرح ابن هشام لقصيدة بانت سعاد بأن هذا الصفة تمنح للوجد الصوفي او للانقطاع في الخلاء بعيدا عن بقية الناس (الأماكن).


لا أريد أن أطيل عليكم هذا الصباح، فكل تلك الكلمات أثارها اسم الشارع الشهير "سيدي المدبولي" الذي تحرف فيه اسم الشيخ من متبولي إلى "مدبولي" ثم تغير الشارع في العصر الجمهوري ليصبح شارع الجلاء.


إذا ساقتك قدماك اليوم في 2022 إلى شارع الجلاء بالغ الازدحام والضجيج والذي تتقاطع فيه السيارات والحافلات مع الباعة الجائلين والمشاة بشكل جنوني (ولكنه جنون العشوائية لا جنون الحب الصوفي) فستكون لديك أمنية واحدة وهي أن تحقق "الجلاء" عن هذا الشارع في أسرع وقت، وبالطبع لن يخطر ببالك أن هذا الشارع كان هادئا وساكنا ومتسقا قبل 130 سنة مع هيئته الهادئة المحاطة بأبنية فارهة الجمال وحدائق غناء وأفق فسيح عامر بالأشجار والأزاهير.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/