بحث حول نظريات علم الاجتماع - النظرية الوضعية

كوكب المنى سبتمبر 05, 2021 سبتمبر 05, 2021
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

 بحث حول نظريات علم الاجتماع - النظرية الوضعية



كتاب نظريات علم الاجتماع


مقدمة 


شـهد علــم الاجتمــاع، في تاريخـه الطويــل، عـدة نظــريات سوســيولوجية كــبرى وصــغرى، ومــن أهـم هـذه النظـريات المشـهود لهـا بالقـوة والسـيطرة والاهتمـام، النظريـة الماديـة التاريخيـة، والنظريـة الوضــعية، والنظريــة الوظيفيــة البنائيــة، والنظريــة البنيويــة، والنظريــة الماركســية الجديــدة، ونظريــة الفعــل الاجتمــاعي، والنظريــة التفاعليــة الرمزيــة، والنظريــة الإثنومنهجيــة، والنظريــة الإســلامية، ونظريات ما بعد الحداثـة وغيرهـا مـن النظـريات السوسـيولوجية الأخـرى الـتي لهـا أهميـة كـبرى في فهم الواقع االمجتمعي وتفسيره وتأويله.


إذاً، مـا الوضـعية؟ ومـا سـياقها التـاريخي؟ ومـا مقوماتهـا النظريـة والمنهجيـة والعلميـة؟ ومـن هـم أهــم روادهـا البـارزين؟ ومـا أهــم الانتقــادات الموجهــة إلى الوضـعية؟ هــذا مــا ســوف نتناولـه في التالي:


مفهوم النظرية الوضعية

تعد النظرية الوضعية من أهم النظريات السوسيولوجية الكبرى في تاريخ الفكر الغربي، فقد أحدثت قطيعة إبستمولوجية مع التصورات الأسطورية والميتافيزيقية، بتبني التجريب العلمي منهجا في تحصيل الحقائق، وخاصة في مجال علم الاجتماع الذي أصبح علما مستقلا مع إميل دوركايم. ومن هنا، تنبني الوضعية على الاختبارات الحسية، والتفكير المادي، والموضوعية العلمية، والحياد في البحث، والعلمانية - فصل الدين عن العلم -، والتجريب، والتخلص من اللاهوت والتفكير الميتافيزيقي، والمنفعة، والواقعية... وترتكز النظرية الوضعية على مجموعة من المقومات النظرية والمنهجية، كالانطلاق من الإحساس وحده باعتباره مصدرا للمعرفة الاجتماعية؛ والاعتداد بالنموذج الطبيعي على  أساس أنه سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية؛ وإخضاع الظواهر الاجتماعية للفحص والتجريب والاختبار؛ والقول بشيئية الظواهر الاجتماعية[1].

وقد ينتج عن هذا التطبيق الوضعي المبالغ فيه تضخم في الوثوقية العلمية؛ واختزال الحقيقة الاجتماعية في جوانبها المادية الواقعية؛وإحلال النسبية محل المطلق في دراسة الظواهر الأخلاقية؛ وتبرير مشروعية النزعة الإلحادية؛ وتعميق نزعة الشك، وخلخلة البنية الفكرية...[2]

 سياق النظرية الوضعية

تأثرت السوسيولوجيا، وبالضبط مع سان سيمون(San Simon)، وهربرت سبنسر(Spencer)، وأوجست كونت(Auguste Comte)، وإميل دوركايم(Emile Durkheim)، بالمرحلة الوضعية التي تبنت مناهج العلوم الطبيعية أو مناهج العلوم التجريبية في القرن التاسع عشر الميلادي، بالاحتكام إلى الفرضيات، والأخذ بالملاحظة الخارجية، والميل إلى التجريب، والقيام بكثرة الاختبارات، واستصدار القوانين والنظريات العامة. أي: يقوم علم الاجتماع الوضعي على الملاحظة العلمية الخالصة، والتجريب الدقيق، والمنهج المقارن، والاستعانة بالتحقيب التاريخي، والاسترشاد بالحتمية التجريبية القائمة على العلية والارتباط بين المتغيرات المستقلة والتابعة. لذا، كانت العلوم الطبيعية، بما فيها: الفيزياء، والرياضيات، والفيزيولوجيا، والكيمياء، مثالا ونموذجا متميزا وصالحا للاقتداء به من قبل السوسيولوجيين الوضعيين.

ويعني هذا أن الوضعية كانت نتاج الثورة الفرنسية، ونتاج فلسفة القرن التاسع عشر الميلادي. وفي هذا، يقول ليفي بريل أن" كونت كان يمثل فلسفة القرن التاسع عشر بأسره، فمن بين جميع المذاهب التي نشأت في فرنسا في القرن التاسع عشر كان مذهب كونت هو المذهب الوحيد الذي استطاع أن يتجاوز الحدود، ويترك أثرا قويا في المفكرين الأجانب.فامتدت الروح الوضعية إلى إنجلترا والجامعات الألمانية.[3]"

ويعني هذا أن القرن التاسع عشر هو قرن الوضعية بامتياز، واعتماد العقل والعلم والتجريب، وتجاوز الأسطورة والميتافيزيقا، والاستفادة من مكاسب عصر النهضة من جهة أولى، ومن مقاييس عصر الأنوار من جهة ثانية، ومن مبادىء الثورة الفرنسية من جهة ثالثة.

التصور المنهجي

اعتمدت السوسيولوجيا الوضعية على منهجية التفسير (Explication) في دراسة الظواهر المجتمعية، على أساس ارتبطها السببي والعلٌي. بمعنى دراسة المتغيرات المستقلة والمتغيرات التابعة، ضمن رؤية تجريبية استقرائية وعلمية، بغية تحصيل القوانين والنظريات، أو اختزال مجموعة من الظواهر في أقل عدد من العمليات المنطقية الصارمة. ومن ثم، يعد التفسير من أهم مبادىء الفكر العلمي أو الفكر الوضعي الموضوعي. لذا، تشير كلمة السوسيولوجيا إلى هذا الجانب التفسيري الوضعي، بالربط بين مفهومين متضامين هما: علم ومجتمع. بمعنى أن السوسيولوجيا تدرس الظواهر المجتمعية دراسة علمية موضوعية، باستجلاء العلاقات السببية والارتباطية بين المتغيرات المدروسة، سواء أكانت مستقلة أم تابعة. وفي هذا الإطار، يقول مارسيل موس (Marcel Mauss): " السوسيولوجيا هي كلمة وضعها أوجست كونت ليشير بها إلى العلم الذي يعنى بدراسة المجتمعات...وكل ما تصادر عليه السوسيولوجيا هو، ببساطة، اعتبار أن ما يسمى بالوقائع الاجتماعية هي وقائع موجودة في الطبيعة.أي: إنها خاضعة لمبدإ النظام والحتمية الكونيين، وأنها، بالتالي، وقائع تنطوي على معقولية.[4]"

ويسمى التفسير أيضا بالنسق العليَ أو السببي عند عبد الله إبراهيم في كتابه (علم الاجتماع)، ويعرفه قائلا:" قوام النسق العلي (السببي) تصور علاقة زمنية ثابتة بين الظواهر، بحيث يؤدي وجود ظاهرة ما، بالضرورة، إلى وجود الظاهرة الثانية. كما تشير العلاقة العلية بين ظاهرتين إلى ارتباط ضروري بينهما، بحيث تسبق واحدة منها زمنيا الأخرى.ولهذا، فإن للبعد الزمني أهمية في تحديد العلاقة العلية.ولقد عرف النسق العلٌي تحديا كبيرا مع ثورة الفيزياء الكبرى، وما رافقها من انتقادات وجهت إلى العلاقة العلية التي تسير في اتجاه واحد من العلة إلى المعلول. وبنتيجة الانتقادات انتقلت إلى النسق العلي فكرة الكل والأجزاء، وقد حمل هذا الانتقال معه تصويبا للعلاقة العلية، بحيث لم يعد الأمر يقف عند مجرد إثبات قيام علاقة علية بين الظاهرة ونتائجها، بل لابد من إكمال الطريق لإثبات قيام علاقة علية بين النتائج، وما تحدثه النتائج من نتائج في الظاهرة.[5]"

ويعني هذا إذا كانت نظرية الفعل الاجتماعي مع ماكس فيبر تأخذ بمنهج الفهم والتأويل، فإن المنهج الوضعي يستند إلى التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية.

 أهم أعلام السوسيولوجيا الوضعية

لايمكن فهم السوسيولوجيا الوضعية بشكل جيد ومحكم إلا بالتوقف عند بعض أعلامها البارزين على الوجه التالي:

سان سيمون

يعد سان سيمون(Saint - Simon)[6] من أبرز رواد السوسيولوجيا الوضعية، مادام يؤمن بالعلم، والعلمانية، والتقدم، والازدهار، وإخضاع الإنسان للتجريب الوضعي. يقول سان سيمون:" إن أكبر وأشرف وسيلة لدفع العلم نحو التقدم هو جعل العالم في إطار التجربة، ولانقصد العالم الكبير وإنما هذا العالم الصغير يعني الإنسان الذي نستطيع إخضاعه للتجربة[7]."

ومن جهة أخرى، دعا إلى تطبيق المنهج الفيزيولوجي على علم الاجتماع، وسماه بالفيزيولوجيا الاجتماعية، إذ يقول:" تنظر الفيزيولوجيا الاجتماعية إلى الأفراد كعناصر في الهيئة الاجتماعية التي تعنى بدراسة وظائفه العضوية بالطريقة نفسها التي تدرس بها الفيزيولوجيا الخاصة وظائف الأفراد...(ويجب أن نسترجع إلى ذاكرتنا الطريق الذي سلكه التفكير الإنساني؛ اتجه منذ هذا القرن إلى الاعتماد على الملاحظة، فأصبح الفلك والطبيعة والكيمياء من علوم الملاحظة)، نستخلص من هذا بالضرورة أن الفيزيولوجيا العامة التي يمثل علم الإنسان الجزء الرئيسي منها، سوف تعالج بالمنهج المتبع في العلوم الطبيعية الأخرى، وأنها سوف تدخل في التعليم العام عندما تصبح وضعية...لكن ما العقبة التي تعترض- حتى اليوم- قيام معرفة فيزيولوجية للمجتمعات الإنسانية؟ (إن تلك العقبة تتجلى في الصراع الذي وجد دائما...بين الطبقات الاجتماعية...إلا أنه قد آن الأوان لإنشاء علم للإنسان، وأن نقطة البداية في إنشاء هذا العلم هي الفيزيولوجيا الاجتماعية."[8]

وهكذا، فقد تنبه سان سيمون إلى تأسيس علم جديد يدرس الإنسان في المجتمع، هو علم الاجتماع أو ما يسمى عند سان سيمون بالفيزيولوجيا الاجتماعية. وتسعى هذه السوسيولوجيا إلى دراسة الظواهر المجتمعية، مثل: العلوم الطبيعية، بالاعتماد على الملاحظة العلمية، ودراسة الوظائف العضوية التي تؤديها هذه الفيزيولوجيا الاجتماعية.

وفي سياق آخر، يقول سان سيمون:" إن القدرة العلمية الوضعية هي نفس ما يجب أن يحل محل السلطة الروحية، ففي العصر الذي كانت فيه كل معارفنا الشخصية حدسية وميتفايزيقية بصفة أساسية كان من الطبيعي أن تكون إدارة المجتمع فيما يخص شؤونه الروحية في يد السلطة اللاهوتية، مادام اللاهوتيون آنذاك هم الميتافيزيقيين الموسوعيين الوحيدين.وبالمقابل عندما تصبح كل أجزاء معارفنا قائمة على أساس الملاحظة، فإن إدارة الشؤون الروحية يجب أن تستند إلى القدرة العلمية باعتبارها طبعا متفوقة على اللاهوتية والميتافيزيقية."[9]

هذا، ويعد سان سيمون أول من قدم تصورات علمية حول الظواهر المجتمعية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وسماها بالفيزيولوجيا الاجتماعية (physiologie sociale). وقد كانت تعنى بدراسة الذوات المجتمعية في علاقة بتنظيماتها. وبعد ذلك، طور أوجست كونت تصورات سان سيمون، وعمقها في إطار تصور علمي ووضعي. ويعني هذا أن سان سيمون، في الحقيقة، هو المؤسس الأول لعلم الاجتماع في مفهومه الغربي. بينما يعد ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران في الثقافة العربية بلامنازع.

ويعده جان ديفينيو (Jean Duvignaud) المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع:" إن سان سيمون المعاصر لروبيسبيير وسان غوست [10] والأرستقراطي، والمراقب الشغوف لثورة يعيش بفضلها، يتمتع بالتفكير الصحيح كعالم اجتماع، وعلينا أن نعترف، أن الفضل يعود إليه، وليس إلى كونت كما نفعل دائما، بهذا الصدد."[11]

والدليل على منظوره الاجتماعي هذه القولة التي تشير إلى الجبرية الاجتماعية، وتبيان دورها في توجيه الأفراد:" من إحدى التجارب الأكثر أهمية التي أقيمت حول الإنسان، هي وضعه في علاقات اجتماعية جديدة، وعرضه على كافة الطبقات، ووضعه في أكبر عدد ممكن من الظروف الاجتماعية، وخلق علائق لم تكن قد وجدت بالنسبة له أو للآخرين"[12].

ويعني هذا أن ثمة اختلافا حقيقيا حول المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، فهناك أكثر من ست شخصيات في هذا المجال: ابن خلدون، وسان سيمون، وأوجست كونت، وأليكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)[13]، وإميل دوركايم، وأدولف كوتليه(Adolphe Quetele)[14]...

وعليه، يعد سان سيمون من رواد السوسيولوجيا الوضعية؛ عندما ثار على الفكر اللاهوتي، وتمسك بالعلم في دراسة علم الاجتماع على غرار العلوم الطبيعية. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" إن الوضعية بهذا المعنى المحدد تجد بذورها عند سان سيمون، وربما أمكن القول بأن الفكر الوضعي مع سان سيمون كان على درجة من الوضوح بحيث لانجد اختلافا في التحليل وأسلوب التفكير بينه وبين كونت، وإن كان هذا الأخير قد وسع دائرة الوضعية وجعل منها نظرية متكاملة ذات بعد فلسفي تستوعب كل التراث الإنساني في ماضيه وحاضره، وجعل منها منطلقا في التحليل يمتد إلى كل أطراف العلوم الطبيعية منها والاجتماعية والإنسانية. وتكمن العقدة التي وجهت الوضعية في هذه المعادلة البسيطة: أن التفكير الديني ساد في المجتمعات ماقبل العلمية، أما وقد بلغ المجتمع مرحلة الوضعية، فلامبرر للاحتفاظ بالتجريدات والبراهين الميتافيزيقية...

فالتحول من التفكير اللاهوتي إلى التفكير العلمي الوضعي حسب سان سيمون هو أمر واقعي يتفق مع السير العام لتقدم العقل الإنساني.ولكن سان سيمون لايقف عند هذا الحد في تبرير قيام التفكير الوضعي، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فهذا التحول ليس ظاهرة تاريخية فحسب يعبر عن المراحل التي قطعها العقل الإنساني، بل إن الثورة العقلية تعتبر تحولا يستجيب للثورة المعاصرة. فهي ضرورة من ضروريات هذا العصر. وقد وضع سان سيمون بذرة المذهب الاجتماعي كما بلوره كونت، فعلم الإنسان حسب كونت سيكون موضوعه الأساسي هو إعادة النظر في التاريخ من الوجهة الوضعية... والنظر في التنظيم الاجتماعي من وجهة علمية هو قبل كل شيء فهمه في سيرورته وإدراج كل عنصر من عناصره في التتابع الزمني. وعلى هذا الأساس، فإن وظيفة علم الإنسان ستكون متعارضة تماما مع الوظائف القديمة التي تؤديها المعرفة اللاهوتية أو الفلسفية. فهذا العلم لن يكون أبدا من وظيفته اضطهاد الفكر وإبعاده عن المشاكل الواقعية."[15]

وهكذا، يرسي سان سيمون علم الاجتماع على المبدإ العلمي الموضوعي والتجريبي، مع استلهام العلوم الطبيعية، وتجاوز الفكر اللاهوتي الكنسي.

 أوجست كونت

يعد أوجست كونت(Auguste Comte)[16] من أهم السوسيولوجيين الذين تبنوا منهج التفسير في دراسة الظواهر السوسيولوجية، وفق أربعة إجراءات أساسية هي: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مستلهما آليات الكيمياء والفيزيولوجيا. وفي هذا الصدد، يقول نقولا تيماشيف، في كتابه(نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها):"أنكر كونت - بغض النظر- عن تعليمه الرياضي الراقي- إمكان التطابق بين المنهج الوضعي واستخدام الرياضيات والإحصاء.

أما دعوى أن المعالجة الرياضية للعلوم الاجتماعية لازمة حتى يمكن اعتبارها علوما وضعية، فتمتد جذورها إلى علماء الطبيعة.وتنبعث من تعصب مؤداه أنه لايوجد يقين خارج نطاق الرياضيات. وقد كان هذا التعصب طبيعيا ومنطقيا في الوقت الذي كان فيه كل ماهو وضعي ينتمي إلى مجال الرياضيات التطبيقية، كما أن هذه الميادين الوضعية جميعا لم تكن تنطوي على ماهو غامض وتخميني، لكن هذا التعصب أصبح غير منطقي ولا مبرر له منذ ظهور العلمين الوضعيين العظيمين: الكيمياء والفيزيولوجيا، حيث لايلعب التحليل الرياضي فيهما أي دور، ولايقلا يقينا وضبطا عن العلوم الأخرى..

فكيف نستقي المعرفة الوضعية-إذاً- في رأي كونت؟ ذكر كونت أربعة إجراءات هي: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مؤكدا أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية، وفي مجال أساليب الملاحظة لم يظهر إلا أقل تقدير للاستبطان، ...وقد كان كونت مدركا أن التجربة فعليا وواقعيا تكاد تكون مستحيلة في دراسة المجتمع...كما أكد إمكانية عقد المقارنات التي تعيش معا زمنا بعينه، وبين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.

أما المنهج التاريخي، فإنه عند كونت، البحث عن القوانين العامة للتغير المستمر في الفكر الإنساني، وهي نظرة تعكس الدور المهيمن للأفكار، كما تبدى ذلك في قوانين المراحل الثلاث، ولايشترك منهج كونت التاريخي إلا في القليل من نواحيه مع المناهج التي يستخدمها المؤرخون الذين يؤكدون العلاقات السببية بين الوقائع الملموسة، ويقيمون قوانين عامة كيفما اتفق..."[17]

ومن جهة أخرى، يعد كونت من رواد الوضعية (Positivisme) الذين أسسوا علم الاجتماع على أسس علمية تجريبية، اعتمادا على الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والتاريخ. ويعرف كذلك بوضع قانون المراحل الثلاث الذي يتمثل فيما يلي:

-  قانون المرحلة الدينية أو اللاهوتية: كان الإنسان، في هذه المرحلة، يفكر بطريقة خيالية، وإحيائية، وأسطورية، وخرافية، وسحرية، وغيبية، ودينية؛ وكان يفسر ظواهر الطبيعة وفق قوى خفية مصدرها الأرواح، والشياطين، والعفاريت، والآلهة. ولم يكن هناك أدنى اعتراف بالحتمية التجريبية أو العلمية، فالقانون الوحيد هو الصدفة فقط.

- المرحلة الميتافيزيقية: انتقل الإنسان، في هذه المرحلة، من الميتوس والخيال إلى اللوغوس والفكر المجرد. وبدأ يهتدي بالتأمل الفلسفي، واستخدام العقل والمنطق، والاستدلال البرهاني، والحجاج الجدلي. وتواكب هذه المرحلة الفكر الفلسفي الميتافيزيقي من مرحلة الفلسفة اليونانية حتى القرن التاسع عشر؛ قرن التجريب والاختبار والوضعية. وكان الفلاسفة يرجعون الطبيعة إلى أصول ومبادىء كامنة في تلك الظواهر، كتفسير ظاهرة النمو في النبات إلى قوة النماء، وظاهرة الاحتراق بإله النار...

- المرحلة الوضعية: في هذه المرحلة، تجاوز العقل الإنساني مرحلة الخيال والتجريد، وبلغ درجة كبيرة من الوعي العلمي، والنضج التجريبي. إذ أصبح التجريب أو التفسير منهج البحث العلمي الحقيقي، ثم الارتكان إلى المعرفة الحسية العيانية، وتكرار الاختبارات التجريبية، وربط المتغيرات المستقلة بالمتغيرات التابعة ربطا سببيا، في ضوء مبدإ الحتمية أو الجبرية العلمية. وتعد هذه المرحلة أفضل مرحلة عند أوجست كونت، وهي نهاية تاريخ البشرية.

وتوافق كل مرحلة من هذه المراحل تطور الإنسان من الطفولة حتى الرجولة؛ إذ تتوافق المرحلة اللاهوتية مع مرحلة النشأة والطفولة؛ وتتماثل مرحلة الميتافيزيقا مع مرحلة الشباب والمراهقة؛ وتتطابق مرحلة الوضعية مع مرحلة النضج والرجولة والاكتمال.

وتبقى هذه الصيرورة التاريخية صيرورة نسبية وإيديولوجية؛ لأن جميع المراحل والمجتمعات الإنسانية قد أخذت بهذه الأنماط التفكيرية الثلاثة حتى لدى الشعوب القديمة. وإذا أخذنا الفكر العربي في العصر الوسيط، فنجد اهتماما كبيرا بالفكر الوضعي التجريبي. وفي الوقت نفسه، كان الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي سائدين ومتجاورين في المجتمع جنبا إلى جنب. ثم، لايمكن للفكر أن يتوقف في لحظة معينة، كتوقف التاريخ عند فوكوياما، أو توقف المجتمع البشري عند كارل ماركس بوصوله إلى المرحلة الشيوعية. ومن جهة أخرى، فقد ساهمت الوضعية العقلانية في ظهور فلسفات غير وضعية وغير عقلانية، مثل: السريالية، والفرويدية، والوجودية، والتأويلية، والذاتية...

هذا، وقد أسس كونت الفيزياء الاجتماعية، ثم استبدلها بعلم الاجتماع(Sociologie). وبعد ذلك، أصبح هذا المصطلح شائعا في الثقافة الغربية، ثم تمثلته الثقافات الكونية الأخرى. وفي هذا، يقول كونت:" لدينا الآن فيزياء سماوية، وفيزياء أرضية ميكانيكية أو كيماوية، وفيزياء نباتية، وفيزياء حيوانية، ومازلنا في حاجة إلى نوع آخر وأخير من الفيزياء وهو الفيزياء الاجتماعية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة باعتبار هذه الظواهر من روح الظواهر العلمية والطبيعية والكيميائية والفسيولوجية نفسها من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة[18]".

وقد قسم أوجست كونت علم الاجتماع إلى قسمين: قسم ستاتيكي يدرس الظواهر المجتمعية في حالتها الساكنة والثابتة والنسبية، كدراسة النظم الاجتماعية الجزئية (النظام الأسري، والنظام التربوي، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي...)، بالتركيز على العلاقات الترابطية والسببية بين المتغيرات؛ وقسم ديناميكي، يدرس التغير وحركة المجتمع عبر الصيرورة الزمنية أو التصور الدياكروني والتاريخي.

علاوة على ذلك، فقد صنف كونت العلوم إلى ست مجموعات: أولها الرياضيات، ثم الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الحياة، وعلم الاجتماع أو الفيزياء الاجتماعية. وبالتالي، فالرياضيات مفتاح العلوم جميعا. أما علم الاجتماع، فهو آخرها وتاجها جميعا، و" تلك حقيقة، إذ إن الرياضيات هي أول العلوم، فقد توصل إليها اليونانيون، ثم تلاها علم الفلك الذي ظهر على يد كوبنرك وكبلر وغاليلو، ثم الفيزياء التي ظهرت في القرن السابع عشر عند لافوازييه (Lavoisier)، ثم علم الأحياء في القرن التاسع عشر عند بيشات (Bichat) وغيره، وأخيرا علم الاجتماع في القرن التاسع عشر على يدي أوغست كونت."[19]

ويلاحظ أن أوجست كونت قد صنف العلوم من المجرد(الرياضيات) إلى المحسوس العياني (علم الاجتماع). ووسع النظرية الوضعية لتشمل العلوم الطبيعية والإنسانية. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" مد الروح الوضعية إلى كل مجالات التفكير: الطبيعية والإنسانية، وليست هذه الصعوبات من النوع الذي يصعب التغلب عليه في نظر الوضعية، فقد خضعت العلوم الطبيعة للنظام الوضعي، وحققت في ذلك نجاحا باهرا بعد أن أخرجها من أسر التأملات اللاهوتية والأوهام الميتافيزيقية، وتبقى الخطوة الأخيرة أن يمد هذا النظام ليعم مجال الإنسانيات، وتلك هي مهمة كونت: تحرير الدين والأخلاق والاجتماع...لتصبح في أول مرة في تاريخها علوما يقينية تخضع للملاحظة والتجربة وكشف القوانين التي تخضع لها في صيرورتها وتطورها تماما.كما تم الكشف عن القوانين التي تخضع لها العلوم الطبيعية، وبذلك سيتحقق الانسجام العقلي، بعد أن يصبح التفكير الإنساني موحدا لايقتصر على جانب دون آخر."[20]

وعليه، فقد جاءت وضعية أوجست كونت حلا للفوضى التي كانت تعيشها فرنسا إبان انتصار الثورة الفرنسية على الإقطاع، فنتج عن ذلك مجموعة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعرف المجتمع انقساما وتفككا وتصدعا وفوضى عارمة. لذلك، حاول كونت أن يوفق بين النظام والتقدم، أو بين رغبات المجموعة المحافظة، ورغبات البورجوازية التي كانت تناصر الثورة. لذا، جاءت الوضعية للدفاع عن النظام والتقدم، وتوظيف العلم لتحقيق أمن المجتمع وسلامته. لكنه لم يوظف الفكر العلمي باعتباره نظرية لتحقيق ذلك، بل استخدمه سلاحا إيديولوجيا ليس إلا. وفي هذا، تقول وسيلة خزار:" وعلى الرغم من إيمان كونت بالمنهج الوضعي، إلا أنه لم يلتزم أساسياته، بل حوله إلى سلاح إيديولوجي، فقد حاول إقصاء الجماهير عن إدارة المجتمع وتنظيمه، وعن رسم السياسة العليا له، على أساس أن هذه الوظيفة هي وظيفة علماء الاجتماع وخبراء التنظيم؛ فهذه الصفوة هي السلطة النهائية القادرة على رسم الطريق الصحيح لتحسين حالة أبناء الطبقات الدنيا، وذهب إلى أنه ليس من حق الجماهير التساؤل عن أشياء تعلو قدراتهم ومؤهلاتهم".[21]

وهكذا، يتبين لنا أن وضعية كونت، على الرغم من طابعها العلمي، فهي تحيز واضح إلى ماهو محافظ وساكن وثابت، مع رفض التغيير باسم الثورة، بيد أنها تقبل الإصلاح. وفي هذا السياق، يقول نبيل السمالوطي:" الوضعية في الوقت ذاته فلسفة إيجابية كما يدل على ذلك اسمها(Positivisme). والإيجاب هنا يعني قبول الأوضاع الراهنة، والوقوف منها موقف الرضا والتأييد، والعمل على الدفاع عنها ضد أي اتجاه. أي: إلى تغييرها تغييرا جذريا، فالوضعية لم تكن تعارض الإصلاح، بل التغيير، ولكن ذلك كله كان يجب أن يتم في إطار ماهو قائم وما هو موجود، محاولة كسر هذا الإطار والثورة عليه كانت مخالفة تماما لروح الفلسفة الوضعية."[22]

وخلاصة القول، فلقد اهتمت الوضعية، عند أوجست كونت، بدراسة الظواهر النسبية غير المطلقة، بالتوقف عند العلاقات الثابتة بين الوقائع والظواهر، في إطار ترابطها السببي، بغية استخلاص قوانينها وقواعدها النظرية والتطبيقية. ومن ثم، يمكن القول بأن أوجست كونت يعد من أهم مؤسسي علم الاجتماع الوضعي، ومن السباقين إلى الأخذ بمنهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بتمثل منهجية الفيزياء والبيولوجيا والفيزيولوجيا والكيمياء في التعاطي مع الظواهر المادية، مع الاعتماد على مجموعة من الخطوات العلمية، مثل: الملاحظة، والتجربة، والمقارنة، والتاريخ.

 إميل دوركايم

 يعد إميل دوركايم (Emile Durkheim)[23] من مؤسسي علم الاجتماع في الثقافة الغربية. ومن ثم، فهو الذي دعا إلى استقلالية هذا العلم عن باقي العلوم والمعارف الأخرى. كما يظهر ذلك جليا في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع). ومن ثم، فقد أرسى دوركايم علم الاجتماع على مجموعة من القواعد، مثل: ملاحظة الظواهر المجتمعية على أساس أنها أشياء أو موضوعات مادية، يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية. وفي هذا النطاق، يقول دروكايم: " إن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء، ويجب أن تدرس كأشياء..لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء...وإذاً، يجب عينا أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها، في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يتمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا...إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء."[24]

والقاعدة الثانية أن يتحرر عالم الاجتماع بصفة مطردة من كل فكرة سابقة، بممارسة الشك المنهجي قصد الوصول إلى اليقين كما قال ديكارت (Descartes). والقاعدة الثالثة دراسة الوقائع المجتمعية التي تشترك في خواص معينة دراسة علمية موضوعية، بملاحظتها، وتصنيفها، وتفسيرها. وتتمثل القاعدة الرابعة في دراسة الظواهر المجتمعية التي تتميز بالتكرار، والاطراد، والعمومية، والجبرية، والإلزام... بملاحظتها خارجيا، بعيدا عن العوامل الفردية والسيكولوجية. والقاعدة الخامسة هي التفريق بين الظواهر المجتمعية السليمة وبين الظواهر المجتمعية المعتلة. والقاعدة السادسة هي تصنيف المجتمعات من حيث البنية والوظيفة.

 هذا، وقد تبنى دوركايم منهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بالتشديد على العلاقة السببية بين الظواهر المرصودة. وفي هذا، يقول دوركايم: " فكل ما يطالب به هذا العلم هو أن يعترف الناس بأن قانون السببية يصدق أيضا على الظواهر الاجتماعية.ولكن علم الاجتماع لايقرر هذا القانون على أنه ضرورة منطقية؛ بل يقرره فقط على أنه فرض تجريبي أدى إليه استقراء مشروع.فإنه لما ثبت صدق قانون السببية في نواحي الطبيعة الأخرى، وامتد سلطانه شيئا فشيئا من العالم الطبيعي الكيميائي إلى العالم البيولوجي، ومن هذا العالم الأخير إلى العالم النفسي حق لنا التسليم بأنه يصدق أيضا على العالم الاجتماعي. ويمكننا من الآن أن نضيف الحقيقة الآتية وهي: أن البحوث التي تقوم على أساس هذا المبدأ تميل بنا إلى تأكيد صحته...

إن طريقتنا طريقة موضوعية.وذلك لأنها تقوم بأسرها على أساس الفكرة القائلة بأن الظواهر الاجتماعية أشياء، ويجب أن تعالج على أنها أشياء، ولاشك في أن مذهب كل من سبنسر وأوجست كونت يقوم على أساس هذه الفكرة نفسها. وإن وجدت لديهما على صورة مختلفة بعض الشيء."[25]

إذاً، يقوم المنهج التفسيري، في علم الاجتماع، على إبعاد الذاتية، والتخلص من النزعة التأملية في البحث، واستعمال التجريب، وتكرار الاختبارات، والاحتكام إلى الجبرية الاجتماعية التي تستند إلى الحتمية، والعمومية، والضغط الخارجي، والعقاب المجتمعي، والابتعاد عن التصورات المسبقة، والتخلص من الأفكار الشائعة بنقدها وغربلتها علميا وموضوعيا. وفي هذا، يقول دوركايم:"إن القاعدة التي ننطلق منها لاتفترض أي تصور ميتافيزيقي، ولاتتتضمن أي نظر تأملي في كنه الموجودات.إن ما تطلبه هو أن يضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبيه بالوضع الذي يكون عليه الفيزيائيون والكيميائيون والفيزيولوجيون، حينما ينخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن ميدانهم العلمي.فعلى عالم الاجتماع، بدوره، وهو يحاول النفاذ إلى المجتمع أن يعي بأنه ينفذ إلى عالم مجهول.وعليه، أن يشعر بأنه، أيضا، إزاء وقائع غير منتظرة مثلما كائن عليه وقائع الحياة، قبل أن تتشكل البيولوجيا كعلم."[26]

يقوم التصور الوضعي عند دوركايم على التخلص من الخطاب التأملي الذاتي والفلسفي، وتبني مناهج العلوم الطبيعية المبنية على التجريب، والملاحظة الخارجية الدقيقة، والمقارنة العلمية (التجربة غير المباشرة)، أو الارتكان إلى الخطوات المنهجية التالية: التعريف بموضوع الدراسة، وملاحظة الظواهر بإعادة بنائها بناء علميا، وتنظيم الوقائع في ضوء استكشاف العلاقات التي تتحكم في المتغيرات المستقلة والتابعة، والالتزام بالخاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية.

 وعليه، يعتمد الموقف الوضعي على منهجية استقرائية تجريبية، وينطلق من مشكلات اجتماعية، وفرضيات علمية، والاستعانة بالتجريب التكراري والترابطي، واستثمار الإحصاء الرياضي، واستخلاص القوانين والنظريات. وفي هذا، يقول السوسيولوجي الفرنسي كلود بابييه (Jean Claude Babier):" إن السوسيولوجيا هي علم، وذلك بالتحديد، لأن من يمارسون البحث السوسيولوجي يسعون إلى القيام به بروح علمية...فالسوسيولوجيا تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد التي تتمفصل ضمن نظريات أو أبنية نظرية. وذلك من أجل كشف الظواهر الاجتماعية الي تقدم نفسها لعلماء الاجتماع ولمعاصريهم، بوصفها مشكلات اجتماعية.

فالمظهر الأول للعمل الاجتماعي هو، إذاً، تعيين المشكلة أو المشكلات الاجتماعية التي يتعين دراستها...وتفسير الظواهر الاجتماعية يتم بالاعتماد على نظريات تشكل أنساقا وأبنية تقوم على قضايا منظمة بشكل عقلي. تقابل تلك الأبنية بوقائع تجريبية، وتتطور تبعا لمقابلتها بوقائع ومعطيات اختبارية أو تجريبية.كما تقوم تلك النظريات على مسلمات، أي على جملة من القضايا الأساسية غير مبرهن عليها، تعتبر بمثابة قضايا بديهية...وتحدد هذه المسلمات، بدورها، نموذجا نظريا. أي: إطارا تصوريا شاملا...

والسوسيولوجيا تقوم على ثلاث مسلمات، وتعتمد نموذجين نظريين أساسيين:

المسلمة الأولى: يشكل الإنسان نوعا وحيدا أو ثابتا لايتغير في الزمان...

المسلمة الثانية: يشكل مجموع الوقائع الاجتماعية (المجال الاجتماعي) مجالا خارجيا بالنظر إلى الفرد...

المسلمة الثالثة: ينطوي تنظيم الوقائع الاجتماعية على معنى يجري كشفه عن طريق تطبيق مناهج الفكر العلمي..."[27]

وينطلق إميل دوركايم، في كتابه (الانتحار)[28]، من نتيجة أساسية، وهي أن الانتحار ليست ظاهرة نفسية أو عضوية، بل هي ظاهرة مجتمعية، مرتبطة بتقسيم العمل في المجتمع الرأسمالي الصناعي. وبالتالي، يتحدد معدل الانتحار بحسب درجة اندماج الأفراد في الجماعة، والعلاقة بينهما علاقة علية أو سببية.

أما فيما يخص اهتمامه بالجوانب الدينية، فقد رفض التفسير الفردي والاجتماعي للظاهرة الدينية، فاعتبرها ظاهرة اجتماعية، يمكن دراستها دراسة علمية موضوعية، كما يبدو ذلك جليا في كتابه ( الصور الأولية للحياة الدينية) الذي ظهر سنة 1912م[29]. وقد توصل في كتابه إلى أن التدين ظاهرة جماعية؛ لأن فكرة المقدس موجودة في جميع العقائد والأديان. ومن ثم، فالمقدس نتاج الحياة الجماعية. وبالتالي، فالدين هو المجتمع نفسه. ويعني هذا أن المجتمع هو الذي يولد طبيعة التفكير الديني لدى الفرد. ومن ثم، يترادف الدين مع المجتمع. ومن ثم، فالأشكال الدينية هي تعبير عن الأشكال المجتمعية. علاوة على ذلك، فالدين هو مجموعة من المعتقدات والممارسات المرتبطة بالمقدس، وتتميز بطابعها الروحاني المجرد.ومن هنا، فقد قام دوركايم بدراسات إثنولوجية تخص قبائل بدائية بأستراليا، وقبائل الهنود الحمر بأمريكا. ومن ثم، توصل إلى ماهو مشترك في سلوكياتهم الدينية، والذي يتمثل في المقدس أو الطاقة العقائدية التي تسمى بالمانا. ويعني هذا كله أن المعبود والمقدس هو المجتمع. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" لقد رفض دوركايم الانطلاق من كل فكرة مسبقة في دراسة الظاهرة الدينية.فالوضعية العلمية تقتضي تطبيق القواعد المنهجية الصارمة.ولذلك، فهو لايرى سبيلا إلى الدراسة الموضوعية للظاهرة الدينية إلا بالتعرف على أشكالها الأولية وكيفية نشأتها عند الشعوب البدائية، وهي الدراسة التي سجلها في كتابه الضخم عن الصور الأولية للحياة الدينية.

لقد اتجه دوركايم إلى العشائر الأسترالية باعتبارها شعوبا بدائية تمثل صورة المجتمع البدائي الذي لايزال يحتفظ بالمظاهر الدينية الأولى، وقد اعتقد دوركايم أنه وجد الصورة الأولى للنظام الديني في عبادة الطوطم، وهو رمز تتخذه الجماعة أو العشيرة لنفسها، ولهذا فحينما تتجه العشيرة بالعبادة نحو الطوطم، فهي تتجه في الواقع عن طريقه إلى العشيرة نفسها أي عبادة نفسها، فالمجتمع هو المعبود، والعاطفة الدينية مجرد صورة مجسدة من العاطفة الاجتماعية. أي: مجرد صورة تأليه للجماعة.

لقد قدم دوركايم أدلة على صحة استدلالاته، ولسنا في حاجة إلى ذكر هذه الأدلة، ولكن نذكر فقط أن الثابت هو أن النظام الطوطمي ليس نظاما دينيا كما أكد ذلك عالم الاجتماع الديني روجي باستيد، ولكن ذلك لم يمنع دوركايم من تشييد نظريته العلمية في دراسة الظاهرة الدينية، ولم يمنعه من أن يقرر أن الله هو المجتمع نفسه، وله كل خصائص الألوهية.فهو الذي يجرنا إلى خارج أنفسنا، ويلزمنا بالتوافق مع مصالح أخرى غير مصالحنا، وهو الذي علمنا كيف نسيطر على شهواتنا وغرائزنا، وأن نضع لها القوانين، وهو الذي علمنا أن نتضايق وأن نمتنع وأن نضحي وأن نخضع غاياتنا لغايات أكثر سموا."[30]

وقد تأثر موس (Mauss) بإميل دوركايم في دراسة الظواهر الدينية، بالاعتماد على المقترب السوسيولجي في" دراسة لم يكملها خصصها لدراسة ظاهرة الصلاة، وقد عمد إلى الدراسة الوراثية أو التطورية التي تقوم على تتبع الظاهرة في تسلسلها التاريخي، وذلك كطريق وحيد للوقوف على حقيقتها وأصولها وكيفية تطورها."[31]

أما عن الخلفيات الإيديولوجية لوضعية دوركايم، فتتمثل في الحفاظ على الواقع الوضعي العلماني، ومحاربة اللاهوت باسم العلم والتجريب والعقل. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" أما دوركايم، فإن عمله سينطلق من حيث انتهى أستاذه، فهو دخل في صراع حاد مع النظام الديني، ولكنه كان صراعا عمليا أكثر منه نظريا، وركز على ترجمة المبادىء النظرية الوضعية إلى خطة عملية أو مشروع تربوي شامل ينتهي به إلى علمنة المجتمع فردا وجماعة وسلوكا.وهو يحتمي في كل ذلك بالعلمية والتطبيق الصارم للقوانين الاجتماعية التي لاتقبل النقض. فما كان يقرره دوركايم ليس مجرد إحساسات للقوانين الاجتماعية التي لاتقبل النقض. فما كان يقرره دوركايم ليس مجرد إحساسات أو خواطر، وإنما هي إثباتات علمية لها من اليقين بقدر ما للعلوم الطبيعية وهي حجة طالما تلبس بها دوركايم لتمرير نتائج بحوثه، وجعلها تجد سبيلها إلى عقول المواطنين دون مقاومة. ونظرا لهذا الدور الخطير الذي قام به دوركايم في تثبيت النظام الوضعي، نجد المؤرخين لعلم الاجتماع يقررون أن عمل دوركايم يعتبر في الحقيقة أكبر مجهود مذهبي عمل على تحرير علم الاجتماع من اللاهوت والفلسفة والسياسة. وإنه أراد في نهاية الأمر أن يقلب الأدوار وتجد في علم الاجتماع التفسير الوحيد لعلم اللاهوت والفلسفة.

وقد استطاع دوركايم أن يقلب الأدوار فعلا فقد أصبح علم الاجتماع معه يقوم بدور التوجيه العلماني لكل المؤسسات التي كانت خاضعة للتوجيه الديني."[32]


ويعني هذا أن إميل دوركايم كان ينطلق من فلسفة وضعية علمانية تجريبية، تفصل الدين عن الدولة، كما تفصله عن العلم. أي: لم يكن دوركايم يولي الدين أو الأخلاق أو القيم أية أهمية في دراسة المجتمع وظواهره المختلفة.

وخلاصة القول، يتضح لنا، مما سبق قوله، أن إميل دوركايم هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع في منظوره التجريبي والوضعي، مادام هذا العلم مبنيا على مجموعة من الخطوات العلمية المقننة الصارمة. ويكفيه فخرا أن حدد لهذا العلم مجموعة من القواعد والشروط المنهجية، ليتبوأ هذا العلم المستقل مكانته اللائقة به بين باقي العلوم والمعارف الأخرى.


__________________________________

قائمة المصادر والمراجع 


[1] - محمد محمد أمزيان: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى سنة 1991م، ص: 51-57.

[2] - محمد محمد أمزيان: نفسه، صص: 57-76.

[3] - ليفي بريل: فلسفة أوجيست كونت، ترجمة محمود قاسم، مكتبة الأنجلومصرية، سنة 1952م، ص: 18.

[4] - Marcel Mauss: Essai de sociologie, éd Minuit, Paris, France, 1971, pp: 6-7.

[5] - عبد الله إبراهيم: علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة 2010م، ص: 144.

[6] - ولد سان سيمون في باريس سنة 1760، وتوفي سنة 1825م. وقد كان عسكريا، واقتصاديا، وفيلسوفا.

[7] -Pièrre Ansart: Saint-Simon,Collection SUP pholosophes,1édition,PUF,Paris1969,p: 73.

[8] - سان سيمون: مذكرات عن علم الإنسان، مأخوذ بتصرف من سان سيمون، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، طلعت عيسى، ص: 50-51.

[9] - Pierre Ansart: Saint-Simon ,p: 22.

[10] - سان غوست(1767-1794م) رجل سياسي فرنسي، وهو من أهم منظري الحكومة الثورية، وتولى عدة مناصب سياسية فيها، أعدم مع روبسبيير من قبل الثورة نفسها.

[11] - جان ديفينيو: مدخل إلى علم الاجتماع، ترجمة: فاروق الحميد، دار الفرقد، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2011م، ص: 19.

[12] - نقلا عن جان ديفينيو: مدخل إلى علم الاجتماع، ص: 21.

[13] - توكفيل عالم اجتماع فرنسي ولد سنة 1805، وتوفي سنة 1859م. عرف بكتاباته الاجتماعية، مثل: النظام القديم والثورة، والديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية.

[14] - أدولف كوتليه سوسيولوجي بلجيكي، ولد سنة 1796، وتوفي سنة 1874م.

[15] - محمد محمد أمزيان: نفسه، ص: 43-44.

[16] - ولد السوسيولوجي الفرنسي أوجست كونت سنة 1798، وتوفي سنة1857م، ويعد مؤسس الوضعية العلمية، وأحد مؤسسي علم الاجتماع.

[17] - نقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها، ترجمة: محمود عودة وزملائه، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الخامسة، 1978م، صص: 51-52.

[18] -أحمد الخشاب: التفكير الاجتماعي: دراسة تكاملية للنظرية الاجتماعية، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، طبعة 1981م، ص: 545.

[19] - زيدان عبد الباقي: التفكير الاجتماعي: نشأته وتطوره، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، طبعة 1981م، ص: 317-318.

[20] - محمد محمد أمزيان: نفسه، ص: 47.

[21] - وسيلة خزار: الإيديولوجيا وعلم الاجتماع، ص: 133-134.

[22] - نبيل السمالوطي: الإيديولوجيا وأزمة علم الاجتماع المعاصر: دراسة تحليلية للمشكلات النظرية والمنهجية،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، طبعة 1975م، ص: 140.

[23] - إميل دوركايم سوسيولوجي فرنسي، ولد سنة 1858، وتوفي سنة 1917م، وهو مؤسس علم الاجتماع.

[24] - E.Durkheim: Les règles de la méthode sociologique, éd Flammarion, Paris, 1988, p: 103-104.

[25] - إميل دوركايم: قواعد المنهج في علم الاجتماع، ص: 276-279.

[26] - E.Durkheim: Les règles de la méthode sociologique, p: 79.

[27] - Jean Claude Babier: Initiation à la sociologie, éd.Erasme, France, 1990, pp: 14-17.

[28] -Émile Durkheim: Le Suicide: Étude de sociologie, Paris, Presses universitaires de France, coll. « Quadrige » (no 19), 1981, 463 p.

[29]- Durkheim, Émile. Les formes élémentaires de la vie religieuse, Presses Universitaires de France, 5e édition, 2003. p. 604.

[30] - محمد محمد أمزيان: نفسه، ص: 62-63.

[31] - محمد محمد امزيان: نفسه، ص: 88.

[32] - محمد محمد أمزيان: نفسه، ص: 48.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/