دور العرب في تطور علم الجغرافيا

كوكب الجغرافيا يونيو 15, 2019 يونيو 15, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

دور العرب في تطور علم الجغرافيا 


  • السلام عليكم متابعي وزوار كوكب الجغرافيا 
    دور العرب في تطور علم الجغرافيا:
    كان العرب أهل بادية يسيحون في الصحراء بإبلهم وأغنامهم بحثاً عن الكلأ والماء، ولم يكن في مقدورهم اجتياز تلك الفيافي إلا عن طريق تحديد أشياء في النهار ويستخدمون النجوم كعلامات في الليل. هذه الظروف البيئية الطبيعية في بيئتهم فرضت على العرب أن يكونوا على علم ببعض نواحي الجغرافية وإن لم يكن يدرسوها لذاتها، لهذا لم يكن غريباً أن نقف على آثار عربية لها صلة وثيقة بمسائل جغرافية من قبل أن تولد الجغرافية العربية كعلم، نجد أن الشعر الجاهلي ترددت فيه الجغرافية مثل ما تردد في المعلقات السبع التي لا تخلو إحداها من ذكر المواقع ووصف المظاهر الطبيعية المختلفة.
    ونجد أن رواية الشعر كانت أهم ما عنى به العرب على مدى العصور فكانت القصائد تتردد على ألسنة الرواة وهذا من فضل الشعر العربي على الجغرافية، أي خلودها بخلوده هو نفسه وحفظ لنا البذور الأولى للفكر الجغرافي العربي ولذا أصبح مصدر لدراسة هذا الفكر، وأصبح الشعر عون للباحثين في الجغرافية التاريخية، ولا غرابة إذن أن الجغرافية كانت بين الفنون التي اشتغل بها العرب الأوائل.

    ونجد أن " الأصمعي " وهو من علماء اللغة، من العارفين بجغرافية الجزيرة العربية معرفة دقيقة، وتستمر هذه الصلة بين اللغة والجغرافية حتى عصر متأخر فنجدها في " معجم البلدان " لياقوت الحموي وهو موسوعة جغرافية وكتاب في اللغة، وفى كتاب " العروس " للزبيدى وهو من معاجم اللغة العربية، وكان عدد غير قليل من العرب أهل تجارة وهى حرفة تطلبت منهم أن يضربوا في الأرض ويعرفوا أسواقها وما تنتجه أراضيها وصناعاتها وعادات وتقاليد أهلها، ويتفق ذلك مع دراسة الجغرافيا؛ حيث أن فالجغرافية في المفهوم القديم لا تزيد عن كونها علم بالأرض ودروبها، وسكانها ونشاطهم الاقتصادي، وهكذا كانت الجغرافية العربية في نشأتها الأولى وليدة ظروف البيئة إلى حد كبير.
    في القرن السابع الميلادي ظهر الإسلام في الجزيرة العربية، ولم يمض طويل وقت حتى انتشر الإسلام شرقاً وغرباً، فوصل شرقاً حتى حدود الصين وغرباً حتى بحر الظلمات أو المحيط الأطلسي وأوربا، وقامت إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف، وأصبح من الضروري الوقوف على أحوال هذه الأراضي الشاسعة، التي وجدت تحت راية الإسلام، وكان لابد للنظام الحاكم أن يلم بالطرق التي تربط هذه الإمبراطورية، وأن يعرف المسافات التي تفصل بين المدن الرئيسية وبين الأقطار المختلفة، وكان من قواعد الإسلام الحج إلى بيت الله الحرام، والحج رحلة تتطلب معرفة الطرق إلى بيت الله الحرام، وما عليها من الماء ومنازل القبائل وأماكن الرعي، وكان تجمع المسلمين في الحج له أثره في معرفتهم وتبادل المعلومات عن ديارهم.
    كذلك قد ظهر بين العرب لفيف من الكتاب أولوا اهتمامهم بما أسموه تقويم البلدان، وكثرت الكتابات العربية في هذا الميدان، ولا تزال هذه الكتب وإن كان العهد قد قدم بها تمثل مرحلة بارزة في تاريخ الفكر الجغرافي بعامة، خاصة إذا نظرنا إليها بمنظار عصرها، وأمام اتساع هذه الدولة الإسلامية ظهر لفيف من العلماء اهتموا بالتعرف على أحوال هذه البلاد، وكتبوا ووصفوا فيما عرف بتقويم البلدان وظهرت كتابات كثيرة تحمل اسم المسالك والممالك، الممالك والمسالك، ومسالك الممالك، وتقويم البلدان، وهى تعنى خاصة بمعرفة كيفية ربط أجزاء هذه الدولة ببعضها، وما هي الدروب والمسالك والمدن التي توجد في هذه الدولة.

    عندما انتشر العرب خارج ديارهم مع الإسلام كانوا أوسع أفق من غيرهم فلما اتصلوا بالحضارات القديمة في الأراضي المفتوحة، لم يقفوا من تلك الحضارات موقف الكراهية، ولكن أخذوا منها كل ما لا يتعارض مع دينهم، وكل ما ينفعهم في دنياهم، ونحن نعرف كيف توقف الفكر على كتاب " المجسطى Almadjisti " لبطليموس، حيث ظل هذا الكتاب أساس الجغرافية في كل الجهات. لكن مع ظهور المسيحية نجد أن علمائها وباباواتها الأوائل يقولون أن دراسة الفكر القديم نوع من الوثنية ولون من الهرطقة، وأن دراسة الأرض خروج عن الدين، حيث أنهم أرادوا أخذ العالم كما هو، لا يفكرون في شئ منه، وأصبح كثيراً من الناس يحقر المعرفة، التي تفسر أسرار الكون، ويعتبرون هذه المعرفة نوع من الوثنية والهرطقة.
    العرب كان لهم موقف مغايراً تماماً، كانوا يختلفون عن اليونانيين والرومانيين حيث كان اليونانيون أهل فلسفة وثقافة، والرومانيون قوم عمليون حيث كان اهتمامهم الأول هو الغزو، أما العرب فقد أجمعوا بين الأمرين حيث حروبهم الكثيرة، ومعرفتهم بكل ما يقع عليه بصرهم، فعندما فتح العرب سوريا وجدوا في كثير من أديرتها رجال على المذهب النسطورى وقد كان هؤلاء يعرفون اللغة اليونانية، ولذلك حفظوا التراث اليوناني القديم، وعند اتصال العرب بهم كرموهم واحترموهم، وأخذوا ينقلون عنهم المعارف والمعلومات التي تجمعت لديهم.
    لما اتسع الحكم العربي على عهد العباسيين، نجد أن الخلفاء العباسيين كانت لهم مساهمة مشكورة في تشجيع المعرفة والعلماء، فنجد أحد العباسيين وهو الخليفة هارون الرشيد قد أنشأ الأكاديمية ولكن سماها "بيت الحكمة " وجعل من بين المهام المسندة إلى العاملين به ترجمة الكتب الأجنبية وعلى الأخص المعرفة اليونانية وذلك في مختلف علوم المعرفة، وقد كان " هارون الرشيد " متسامح إلى حد كبير وكان يستخدم المترجمين دون النظر إلى دينهم، حيث كان أغلب المترجمين على دين غير الإسلام، وتابع " المأمون " والده " هارون الرشيد "، وجمع الكتب لبيت الحكمة من كل أرجاء العالم، وإذا تكلمنا عن العربية فإنها العربية بالمجموع الواسع وليس المتكلمين باللغة العربية الآن، ولكن في القديم كل ما أنتجته الكتابات باللغة العربية، وكثيراً من الذين أثروا الكتابات العربية ليسوا عرباً.

    لفظ جغرافية لم يظهر في اللغة العربية على معنى وصف الأرض، وكان هذا الظهور في عهد متأخر هو عهد المأمون، وقد كان أول استخدام لكلمة جغرافية على يد " أخوان الصفاء وخلان الوفاء " في رسائلهم، وقبل ذلك كانت تستخدم للدلالة على كتاب بطليموس " جغرافية " وأخذ المفهوم بكلمة جغرافية يستقر في ذهن العرب فكان " حاجى خليفة " وهو تركي الأصل يعرف الجغرافية في كتابه المشهور " كشف الظنون في الرسائل والفنون " فيقول: (علم جغرافية: وهى كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض، ويقال " جغراويا " هو علم يتعرف منه أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الربع المسكون من كرة الأرض وعروض البلدان الواقعة فيها وأطوالها – وهو جزء أساسي من الجغرافية – ويتعرف كذلك على عدد مدنها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها، إلى غير ذلك من أحوال ذلك الربع).
    ويبدو أن الجغرافية العربية قد بدأت منذ القرن السادس عشر تهتم بالجوانب البشرية، يدل على ذلك ما ينقله حاجى خليفة عن داود بن عمر الأنطاكى من قوله " أن الجغرافية علم بأحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى أقاليم وجبال، وأنهار، وما يختلف حال السكان باختلافه "، وبطبيعة الحال لم يكن العرب أول من فكر في هذا ولكن سبقهم فيه اليونانيون، وهذا قوله في مفتاح السعادة.
    في بداية القرن التاسع الميلادي أو الثالث الهجري كان بداية التحول من عصر الظلام والخرافات إلى عصر التفكير العلمي، ويتمثل ذلك فيما نراه من إقبال شديد على ترجمة ما خلفته الحضارات الهندية والفارسية واليونانية، وكان أول ما نقل من هذا التراث إلى اللغة العربية " رسائل في الفلك " كتبت باللغة السنسكريتية، وقد نقلت إلى العربية تحت اسم السند هند، وقد أخذ العرب من المصطلحات التي جاءت من السنسكريتية مصطلحات كثيرة وتحولت إلى العربية، ومنها على سبيل المثال كلمة الأوخ وقد حولت إلى الأوج، وكذلك كلمة جوا وقد حولها العرب إلى جيب ( أي جيب الزاوية ) ولم تمض سنوات على حلول مثل هذه المؤثرات السنسكريتية حتى ظهرت المؤثرات الفارسية.
    قبل أن ينتهي القرن الثامن الميلادي نجد أن على بن زياد التميمى يترجم كتاب الزيج البهلوى، وعن هذا الكتاب أخذ العرب فكرة خط الزوال، والذي استخدمه الفلكيين العرب في حساب الأطوال، وكان آخر الآخذين من آراء الهند والفرس هما الخوارزمي، وأبو معشر، ومنذ القرن التاسع الميلادي انتشرت المؤثرات اليونانية وبالأخص في النصف الثاني منه، أخذ المذهب اليوناني في الانتشار السريع وكان أول من اشتغل بالنقل عن اليونانية هو " خالد بن يزيد بن معاوية "، واشتهر من بين المترجمين عن اللغة اليونانية " زكريا بن يحيى البطريق"، و " الحاج بن مطر "، والذي ترجم كتاب المجسطى لبطليموس.
    وازدهرت الحركة الفكرية في عهد العباسيين ونقلت كثيراً من علوم اليونان إلى العربية واشتغل بذلك كثيرون منهم " حنين بن اسحق، وثابت بن كرة، وأولاد موسى بن شاكر ". وكتب الرئيس " أبو الحسن بن سينا " كتباً كثيرة في الجغرافية، واختصر كتاب Almadjisti وكتب رسالة في المعادن ظلت المصدر الأول في الدراسات الجيولوجية حتى عصر النهضة في أوربا.
    وقد كان هناك مراكز ثقافية حضرية ومدارس، فبجانب المركزين الرئيسيين في بغداد والقاهرة، ظهرت مدارس في شمال أفريقيا ساهمت في الحركة الفكرية، ومن أهم هذه المدارس " فاس ، وطنجة ، ومراكش"، وكان من أشهر رجالها " أبو الحسن بن عمر المراكشى " صاحب كتاب "جامع المبادئ والغايات " أي علم الميتات والذي يقول عنه الأستاذ "ستون " أن بحوثه في الجغرافية هي أهم الإضافات في الجغرافية الرياضية. ونجد أن أسبانيا على عهد العرب ساهمت إسهاماًً كبيراً في النشاط العلمي ولكن ضاع ما كتب في ذلك العصر أو لم يصل إلينا حتى الآن، وقد اهتم العرب بكل فروع الجغرافية.
    العرب ومختلف فروع الجغرافية:
    ومن خلال ما سبق نري أن العرب أخذوا النظر في فروع الجغرافية وجوانبها المختلفة، فلم تعد الجغرافية الفلكية والرياضية هي أساس الدراسة وإن كان العرب قد أسهموا فيها، وبالأخص إخوان الصفاء وخلان الوفاء. وتنقسم الجغرافية عند العرب إلي فرعين هما: الجغرافية الطبيعية والجغرافية البشرية، والفرع الطبيعي يدرس الأرض، والبشرى يدرس الإنسان؛ حيث نجد أن الجغرافية الطبيعية تتناول الأغلفة الثلاث المتمثلة في: الغلاف الصخري Lithosphere، والغلاف المائيHydrosphere، ثم الغلاف الجوى Atmosphere، وما هذه الأغلفة إلا ميدان الجغرافية الطبيعية في الوقت الراهن.
    ومن ثم فإن هذه الميادين قد اهتم بها العرب، حيث اهتموا بأشكال السطح وكيف تتكون والعوامل التي تؤدى إلى تكوينها، فمثلاً يرون أن تجوية الجبال ترجع إلى أشعة الشمس المستمرة، بالمفهوم العصري هذا الكلام حقيقي ولكن يصور بصورة أخرى حيث تمتد الصخور بالحرارة وتنكمش بالبرودة، وهى علمية التجوية. ونجد أنهم أيضاً ينظرون إلى الأمطار والأنهار على أنها عوامل نحت وإرساب، فالأمطار تكسح الصخور والأنهار تنحت الأرض ، بل أكثر من هذا نجد أنهم لم يغفلوا موضوع التغيرات الجيولوجية، وقد اهتم بها إخوان الصفاء، وينظرون إلى ما يحدث من تحول في تركيب الغلاف الصخري، وإن لم يكن تعليلهم سليم ولكن لهم فضل التفكير فيه، ونجد أنهم يذهبون إلى أن حرارة الشمس تحطم صخور الجبال فتحولها إلى أحجار صغيرة وحصى ورمال، ولكن الرياح العاتية تعمل على بعثرة هذه الرواسب، وتلقى بها في قاع البحار مكونة طبقة فوق طبقة ومع مضى الزمن يؤدى ارتفاعها إلى تكوين الجبال.
    نص إخوان الصفاء لتفسير هذا الكلام:
    " مثلما تبنى الجبال في أعماق المحيط يرتفع البحر ويفيض على السهول حتى تصير بحاراً ويصير البحر يابس على مرور الأيام وعلى سطح الأرض التي برزت من البحر تتساقط الأمطار وتتكون مجارى المياه التي تحمل معها التربة والرمال ". يعنى هذا أن العرب في هذه الفترة المبكرة قد أدركوا دورة التعرية والتي قالها بها ديفيز بعد ذلك، وكذلك بالعمليات الجيومورفولوجية الأخرى.
    ولسوء الحظ من تأثر منهم بالجغرافية الفلكية القديمة أرجع العلاقة النسبية بين اليابس والماء إلى التغير في مواقع النجوم في قبة السماء ( القبة السماوية )، وقد سيطرت هذه النجوم عليهم ومازالت حتى الآن لها بعض التأثير. ونجد أن الجغرافيين المحدثين لا يأخذون بهذا القول ولكن يرجعون ذلك إلى باطن الأرض، وهل معنى ذلك أن العرب لا يعرفون حرارة باطن الأرض لا نجد أنهم يعرفون أن الباطن حار وهو المسئول عن التغيرات الناجمة عن الحركات الباطنية والدليل عندهم على أن الباطن حار تفسيرهم الزلازل والبراكين حيث ربطوها بباطن الأرض، وتفسير إخوان الصفاء والوفاء لذلك كما يلي:

    " إن الماء الذي في باطن الأرض تحوله الحرارة إلى بخار يحاول أن يخرج من قشرة الأرض حتى إذا ما وجد منطقة ضعف في هذه القشرة اندفع منها مع حدوث دوى ترتجف منه قشرة الأرض وتكون الزلازل “.
    أما البراكين فتفسيرها عندهم:
    " أما إذا كانت قشرة الأرض صلبة يظل الماء حبيس وهو ساخن وهو يحتوى على مادة الكبريت ومادة النفط فإذا استطاعت الرياح أن تشق طريقها إلى الباطن بشكل أو بآخر، فبذلك يلتهب النفط والكبريت وتندفع الأبخرة والصهير “ أي أن ظاهرتي الزلازل والبراكين شئ واحد، وبذلك هم عكسوا تفسير ظاهرة الزلازل والبراكين.
    العرب في دراستهم للغلاف الغازي اهتموا بما يلي:
    1- بدراسة الظاهرة الجوية مستقلة للمنطقة.
    2- ثم عنوا بظاهرة الارتباط بين هذه الظاهرات الجوية وتداخلها مع بعضها لتعطى صورة المناخ.
    علم الأرصاد الجوية وعلم المناخ مما اهتم به العرب في دراستهم غير أنالعرب كانوا مازالوا متأثرين بالنظرية اليونانية حيث أن الثقافة اليونانية كانت هي السائدة وقد ترجم العرب هذه الثقافة. وقد كان العرب يرون في ذلك الوقت أن الجو يتكون من طبقات فوق بعضها البعض ونجد أنهم يقولون بوجود ثلاث طبقات، وهذا كما هو الآن:
    1- طبقة النسيم: وهى أقرب الطبقات إلى الأرض وأكثر اعتدالاً في حرارتها ولذلك فهي تمكن الإنسان من العيش على الأرض، ولو لم يكن لها صفات الاعتدال لما قامت الحياة على سطح الأرض، وهو الغلاف الذي به الأوكسجين كما نعرف الآن وتسميتها بالنسيم صحيح.
    2- طبقة الزمهرير: وهى طبقة شديدة البرد، وهذا ما هو واقع الآن.
    3- طبقة الأثير: وهى أقرب الطبقات للقمر وهى شديدة الحرارة وهذا ما أثبتته الدراسة الآن من أنها شديدة الحرارة.
    العرب في فهم هذه الطبقات لم يعرفوها بأنها طبقات منفصلة ولكنها في نظرهم متداخلة في بعضها وإن كانت كل منها مميزة عن الأخرى، كذلك نجد أن العرب يعرفون الفرق بين أثر الأشعة العمودية والأشعة المائلة، وأنه كلما ضاقت زاوية ميل أشعة الشمس قلت درجة الحرارة، ويرون أن عمودية الأشعة عامل أساسي في اتجاه الرياح وكمية المطر، وإن كان هذا الكلام غير صحيح، ولكنه يعطى الأساسي، أي أن الفكرة العامة موجودة عند العرب وإن كانوا لم يفسروها. وفى رأيهم أن المطر يسقط بسبب صعود البخار وذلك بسبب تسخين الشمس فإذا ما وصل البخار إلى طبقة الجو البارد يتكاثف ويثقل وزنه وينزل في أشكال التساقط المختلفة، مطر أو ثلج أو برد. ويفرق العرب بين أربعة أنواع من الرياح هي:
    1- رياح الشمال: وهى الريح التي تهب عن يسارك وأنت مولى ناحية الشمس، وهى رياح باردة، وذلك هو الواقع، حيث موقعهم كان شمال خط الاستواء.
    2- ريح الجنوب: وهى التي تهب عن يمينك، هذه في نظرهم رياح ساخنة لا يرحب بها ولذلك كل شعراء العرب يتغنون بريح الشمال لا بريح الجنوب الساخنة، وهذه الريح محملة بالأتربة والرمال.

    3- ريح القبول أو الصبي: وهى أفضل الريح عندهم وهى التي تهب من الشرق.
    4- ريح الغرب – الدبور: وهى رياح مرتبطة – كما هو واضح – بالجهات الأصلية، وهى رياح دائمة.
    لما اتسعت آفاق العرب باتساع الإمبراطورية الإسلامية نجد أنهم يعرفون ما يطلقون عليه الرياح الموسمية – وهى من تسميتهم – بعد أن وصلوا إلى المحيط الهندي حيث أن السنة مقسومة إلى قسمين صيف وشتاء، وجدوا أن هناك مواسم للرياح وسميت الرياح الموسمية، وأصبحت تسمية عالمية.
    من الغريب أن نلاحظ أن بعض الجغرافيين العرب ومنهم المقدسى يدرك أن نصف الكرة الجنوبي يتكون معظمه من الماء بخلاف النصف الشمالي الذي به اليابس، كيف اهتدى المقدسى إلى ذلك ؟ لا نعرف، وقد اهتدى الغرب إلى ذلك بعد عدة قرون أي بعد الكشوف الجغرافية. كذلك نجد أن هناك أمر غريب آخر عند المقدسى كان يرى أنه مادامت الأرض كرة فإن النصف الغربي يكون معمور مثل الشرقي حتى يحدث التوازن، وقد قال ذلك قبل اكتشاف الأمريكيتين ، وإن كان تفكيره نظري ولكن يقبله العقل.
    هذا التطور الملحوظ في الفكر الجغرافي وتصور شكل الأرض ومظاهر السطح فيها وتوزيع اليابس والماء أدى إلى أن تظهر كتابات متنوعة تتناول مختلف الجوانب من فروع الجغرافية وكان أسبقها هو فرع الجغرافية الإقليمية، ونجد أن العرب يدرسون الجغرافية الإقليمية العامة على أساس الأقاليم السبعة التي سبقهم إليها اليونان، وكانت فكرتهم أنها نطاقات هندسية تمتد من الشرق إلى الغرب تحيط بالأرض ومحددة بدوائر العرض وبين الواحد والآخر نصف ساعة من طول النهار. وكانت هذه الأقاليم تسهيلاً للدراسة تقتصر على الربع المعمور من الأرض، ولذلك نجد أنهم لا يبدأون هذه الأقاليم من خط الاستواء حيث أنه شاع بينهم أن منطقة خط الاستواء لا تصلح للسكنى بسبب شدة الحرارة. والأقاليم السبع محصورة بين درجة العرض 516، 50 5 شمالاً وذلك في نظرهم.
    في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي نجد ثلاثة من أعلام الجغرافيين العرب عنوا بدراسة الجغرافية الإقليمية، واختلف فهمهم للإقليم عن فهم اليونان القدماء، فلم يعودوا يفكرون في الأقاليم السبعة، وإنما أصبح للإقليم مفهوم آخر عندهم، أصبح في نظرهم وحدة جغرافية متميزة، وأسبقهم كان " الاصطخرى " في كتابه " المسالك والممالك " يبدأ في مقدمته بما يلي:
    " أما فيما بعد فقد ذكرت في كتابي أقاليم الأرض على الممالك وقصدت فيها بلاد الإسلام، ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض بل جعلت كل قطعة مفردة بصورة “، وفى هذا الكلام قد فكر تفكيراً إقليمياً وأخذ الوحدة السياسية والإقليمية، مثل إقليم فارس، وإقليم مصر، وإقليم الأندلس، وإقليم جزيرة العرب كل منهم إقليم.
    قال ابن حوقل من بعده في كتابه " صورة الأرض “:
    " لم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض لأن الصورة الهندية وإن كانت صحيحة فكثيرة الخلط "، بعد ذلك يأتي المقدسى فيختلف عنهم، فلا يتخذ الحدود السياسية أساس للتقسيم بل نجده يعمد إلى أكثر من أساس فأحياناً يعتمد على الأساس الإثنوجرافى وبذلك قسم العراق إلى القبائل النازلة فيه وهى ثلاث، فقسم العراق إلى ثلاث أقاليم وهى:
    1- ديار ربيعة.
    2- ديار بكر.
    3- ديار مضر.
    ويستعمل شكل التضاريس ويأخذها أساس للتقسيم إلى أقاليم ثانوية، فعند الحديث عن الشام قسمها إلى أربع نطاقات:
    1- نطاق الساحل ( ساحل البحر المتوسط ) وأرضه رمال ناعمة.
    2- نطاق الجبال وهو المعمور لكثرة زروعه.
    3- إقليم الأغوار.
    4- إقليم الصحراء.
    وهذه هي نفس الأقاليم في الوقت الحالي. نجد الاصطخري أيضا يلجئ إلى أسس المناخ كأساس في التقسيم الثانوي فنجده مثلا يقسم بلاد فارس إلى:
    1- فارس الشمالية.
    2- فارس الجنوبية.
    الإقليم الأول يطلق عليه إقليم " الصروم " والثاني إقليم " الجروم “، ويصف الصروم من أن فيها أماكن من شدة البرد لا ينبت فيها شئ من الفاكهة، أما الجروم ففيها ما يبلغ من شدة الحر أن لا ينبث عندهم شئ من النبات. والصروم كلها صحيح الهواء، أما الجروم فيغلب عليها الهواء الفاسد المتقلب ، فواضح من ذلك أنه وجدت الإقليمية عندهم وإن اختلفت ، وهذه الأسس مازالت متباينة حتى الآن .
    الجغرافية الإقليمية عند العرب:
    إن المنهج الذي اتبعه الجغرافيون العرب في الجغرافيا كان منهجاً فيه كثيراً من الوضوح، مثلاً نجد ابن حوقل يشرح في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه ويذكر أنه قد عمل كتابه بصفة أشكال الأرض، ثم مقدارها في الطول والعرض، وقد عنى بالموقع الجغرافي، أين تقع المنطقة بالنسبة لخطوط الطول والعرض ؟ والموقع يدرك بالواقع ( القياس ) وليس بالحس.
    وأول من كتب في جغرافية العمران ابن خلدون وكان يعنى الجغرافية البشرية من جميع بلاد الإسلام حيث ذكر ما يحيط بها من الأماكن والبقاع وما في أمصارها(بلادها) من المدن والمحلات العمرانية (القرى) وما بها من الأنهار والبحار، وما يحتاج إلى معرفته من جوامع ما يشتمل عليه ذلك الإقليم من وجه الأموال والجبايات، والأعشار، والخراجات، والمسافات في الطرق، وما فيه من المجالب والتجارات. وواضح أن مفهوم الجغرافيا الإقليمية عند ابن حوقل مثل ما عند هيرودوت، ثم حينما ندرس إقليم من الأقاليم ندرس النواحي الطبيعية والبشرية فيه.

    طريقة الجغرافيين في معالجة الجغرافية الإقليمية في منطقة ما تتناول ناحيتين: الأرض، والبشر. تُدرس الأرض على أساس موقعها وما بها من جبال وأنهار ومظاهر طبيعية مختلفة، ويدرسون الناس ودراستهم للناس تختلف عن الجغرافية البشرية الحالية. فهم يدرسون الناس على أساس طعامهم ولباسهم، ومعتقداتهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم، ونظمهم الاجتماعية ودراستهم على هذا النحو أقرب إلى دراسة الاجتماع منها إلى دراسة الجغرافية الحالية. ويبدأون دراستهم بالهيكل الطبيعي للمكان وربما كان الموقع، دولة أو إقليم، ويدرسون المظاهر الطبوغرافية والمظاهر المناخية.
    وعلى سبيل المثال يدرس المقدسى بلاد الشام فيبدأ بتقسيمها إلى أقاليم هي:
    1- إقليم الساحل.
    2- نطاق الجبال.
    3- إقليم الأغوار.
    4- إقليم الصحراء.
    ويدرس مناخ الإقليم ويقول عنه:
    " والمناخ معتدل بصفة عامة إلا ذلك الجزء الذي يقع في المنطقة الوسطي فهو يتميز بالحرارة، وهى منطقة الأغوار، ويقارن بين هذا الإقليم ومناخ مناطق أخرى، فيجد أن المناخ في الإقليم أكثر اعتدالاً من مناخ " هجر " ( البحرين ) والبصرة وبغداد أكثر حرارة من مناطق الشام " والحكم على اشتداد الحرارة هنا حكم نسبى.
    ويتميز مناخ العراق بالتقلب، " بغداد “، و " واسط " والبلاد فيما بينهم معتدلة المناخ وقد تكون غير معتدلة في أوقات أخرى أي أن المناخ متقلب، والجو يكون معتدلاً عند هبوب رياح الشمال – التي تهب من الجبال من الشمال من جبال كردستان – هذا يبين بوضوح أن الجغرافيين الإقليميين العرب كانوا يهتمون بالأحوال المناخية للإقليم كصورة من صوره العامة وإن كانوا لا يعرفون الفروق بين الأقاليم من ناحية الحرارة أو الاختلاف في المناخ. ولم يكن اهتمامهم بالناحية الطبيعية فقط ولكن اهتموا بالبيئة الحضارية، فمثلاً نجد الاصطخري وهو يتحدث عن الفرس يصف ملابسهم فيقول:
    " يلبسون الدراريع والعمائم فإن لبسوا تحت العمائم قلانس جعلوها توقى الوسخ، ولا تظهر ولا يلبسون قباءاً ولا طيالسة، أما الملوك فإن لباسهم من الأقبية، وربما لبسوا الدراريع التي هي أوسع فرجة وأعرض جرباناً، ويلبسون السيوف بالحمائل وفى أوساطهم المناطق ( الأحزمة ) ".
    ومن ملاحظات المقدسى على أهل الشام أنهم يفخرون بلباسهم علمائهم وسوقتهم على السواء. وكذلك نجد أصحاب الجغرافية الإقليمية لا يكتفون بالوصف الكلامي ولكن يضيفون لها مصورات للمناطق ولم تكن مثل المصورات الحديثة، ولكن كان كل همهم فيها أن يبينوا طرق المواصلات والمدن الكبرى وحدود الممالك، ويعينون الطريق بما حوله من جبال أو ما يمر به من الأنهار ويعيب تلك المصورات أنها ليس لها مقياس رسم ( أي غير دقيقة ) وكل دقتها في الاتجاهات، صفة أخرى تميز الخرائط والمصورات العربية، أن شمالها في أسفل الخريطة والجنوب إلى أعلى على عكس التوجيه الحديث للخرائط، أن الجزء الأكبر من كتاباتالعرب تتناول هذه الناحية ( الجغرافية الإقليمية ) سواء ما يدرس العالم كوحدة أو يدرس إقليم واحد مثل مصر، أو فارس.
    أقدم كتب الجغرافية الإقليمية كتاب " المسالك والممالك " وهو كتاب "إبن خرداذبة " وأهم ما نلاحظه على الكتاب أنه لا يسير على نظام معين في الكتابة، ويظن أن النسخة الموجودة ليست النسخة الأصلية ولكنها مختصرة للكتاب الأصلي. وميزته أن كتاباته لا تقتصر على جغرافية العالم الإسلامي المعروف ولكن تتعداها إلى مناطق أخرى مثل الصين وكوريا واليابان، وهو لم يراها رأى العين فهو كان كاتب وليس رحالة، ويسرد ذلك عن طريق السماع لا المشاهدة ، وهذا الجزء ليس في دقة الجهات التي تناولت العالم الإسلامي لأنه لا يرى المناطق البعيدة عن العالم الإسلامي . كذلك كتب " أبو يوسف بن يعقوب الكندي" كتابه "رسم المعمور من الأرض " وكتب تلميذه " أحمد بن الطيب السرخسى " كتابه بنفس عنوان كتاب ابن خرداذبه ولكن الذي وصلنا منه كتاباته عن البحار والجبال.

    كذلك من أصناف الكتب التي تتناول الجغرافية الإقليمية العامة كتاب " البلدان " لابن واضح العقبوى، وهو جغرافي مصري جاب كثيراً، ووصل إلى مداخل الصين في الشرق ووصل إلى سواحل بحر الظلمات في الغرب ثم استقر في وطنه مصر، ويتميز كتابه بأن فيه:
    1- وصف مفصل لكثير من الأماكن.
    2- يتميز بميزة أنه يشتمل على إحصاءات وكانت الأولى من نوعها وكان ذلك عن طريق ذكر الأرقام مثل ذكر الحمامات أو المساجد، وبذلك يمكن معرفة السكان.
    3- ميزة أخرى أنه يهتم بطبوغرافية المدن.
    وكان هذا من أوائل الكتابات عن ذلك الموضوع.
    وكُتب في الجغرافية الإقليمية كتاب له أهميته وهو " مروج الذهب ومعاون الجوهر " للمسعودى، وله ميزة جديدة أنه من أوائل الكتب التي تذكر المراجع التي اعتمد عليها في كتاباته، وكل قول ينسبه إلى مصدره وبذلك فهو أشار إلى كتب فقدت الآن، وبذلك عرف اسم الكتاب وبذلك كان أمين ويظهر أنه كان عارف بمعظم الكتب الجغرافية العربية. بجانب هذا الاهتمام يتميز بميزة أخرى، وهو الوصف الناتج عن المشاهدة والرؤية ، وهو وصف بالعيان ، وهو إلى جانب ذلك رحالة وقد كان من أشهر الرحالة في عصره فوصل إلى الصين وسواحل إفريقية الشرقية وكتب عنها كمشاهد أكثر منه كمستمع. وظهرت كتب لها أهمية بعدالمسعودي منها كتاب الإدريسي " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " أحسن الكتب التي تلتقي فيها الجغرافية القديمة بالحديثة. وما كتبه عن إفريقيا يمكن أن يعتد به، وكتاباته عن النيجر ومنابع النيل يمكن أن يعتد بها وإن لم يكن قد رأى منابع النيل.
    ومن الكتب التي تكلمت في الجغرافية كتاب " مراصد الإطلاع في أسماء الأماكن والبقاع" الذي يكمله كتاب ياقوت. وكتب كتاب طريف آخر عنوانه " المختلف وصفاً والمفترق صقعاً " الذي تناول الأعلام الجغرافية، ويمكن أن يندرج تحت هذا الباب كتاب أبو الفداء ، وقد كان أمير حكم حماه ، وكتابه هو " تقويم البلدان " وهو من أوائل الكتب التي ترجمت إلى اللغات الأوربية ، وكان عامل مساعد على معرفة تقدم الجغرافية العربية في زمانه .
    في نفس الوقت ظهر في الجغرافية موسوعات عربية وذلك في القرن الرابع عشر، وقد تميز ذلك القرن بالكتابة الموسوعية أي غير المتخصصة، مثل كتاب " مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار " لابن فضل الله العمرى، وهو كاتب موسوعي مصري، وقد كان كتابه يشتمل على 34 جزء وقد بدأ الكتاب في الأربع أجزاء الأولى بوصف إقليمي للعالم في عصره وبعد ذلك انتقل إلى تاريخ العالم منذ آدم حتى عهده. ومن بعده موسوعة " نهاية الأرب في فنون الأدب " لابن عبد الوهاب النويرى، والموسوعة لا تختلف عن سابقتها فقد تكلم فيها عن الأرض والجبال والبحار والأنهار، وكذلك كتب في الشعر . والموسوعات العربية عموماً تحمل أسماء أدبية لأن الموسوعة تتكلم في كل فروع المعرفة الإنسانية.
    بجانب هذه الدراسات العامة كان بين الجغرافيين العرب بعض المتخصصين في منطقة من المناطق أو بفرع من فروع الجغرافية وليسوا جغرافيين عامين ولكن موضوعيين أو مكانين. مثال ابن الأصبعالسلمي الذي أخرج كتاب بأسماء تهامة ومراكزها، ويشمل كتاب " صفة جزيرة العرب " وهو كتاب ابن يعقوب الهمدانى، وهو من الكتب التي يجب أن تكون المرجع الأول حينما نريد الكتابة عن جزيرة العرب، وبالأخص في الجغرافية التاريخية، وقد ضمن كتابه قصيدتان من الشعر وذلك لتسهيل حفظ الأماكن الواردة بالكتاب.
    نجد من الكتاب الذين عنوا بدراسة النواحي المحدودة، أحمد بن فضائلوالذي أتيحت له فرصة وهى أن الخليفة المقتدر العباسي قد أرسله في بعثة في الربع الأول من القرن العاشر إلى حاكم الأجزاء الجنوبية من ذلك النهر وقد كانت تلك المناطق جديدة عليه ولم يرى مثلها في بلاد العرب، وقد استجد عليه أشياء لم يألفها في بغداد وبالأخص من ناحية المناخ، وعاد من رحلته فكتب وصفاً كان أول وصف لهذه الأجزاء وليس الأول في اللغة العربية ولكن في اللغات، ولم تكن أوربا تعرف عن تلك الأجزاء شئ في ذلك الوقت.
    إفريقيا التي ظلت مجهولة حتى أوائل القرن الثامن عشر نجد أن العربأقدم من ذلك كانوا يسهمون في الكتابة عن إفريقيا، فمثلا نجد جغرافية السودان يكتب فيها المهلبى في كتاب كان الأول من نوعه في جغرافية هذه المنطقة، وكان أول كتاب باللغة العربية عن تلك الأجزاء، وقد ضاع الكتاب ولكننا عرفنا عنه من الكتاب العرب الذين كانوا ينقلون عن أسلافهم في أمانة، وقد كتب ياقوت عن السودان معتمداً على كتاب المهلبى وبذلك حفظ أجزاء كثيرة من الكتاب.
    وقد تميز العرب بأن المسلمين منهم كانوا يؤمنون بالدعوة الإسلامية وتفانوا في نشرها، وقد كان الدعاة المسلمون من الأسباب التي أدت إلى الكشف عن أجزاء مجهولة من قارة إفريقيا وبالأخص في غربها، ومثال هؤلاء المرابطين في المغرب كان لهم الفضل في معرفة الأجزاء الغربية من إفريقية وكان لهم فضل نشر الإسلام فيها.
    ومع هذه المعلومات التي تجمعت عن إفريقية، نجد كاتب من المسلمين الذي ترك فكره في العالم صدى واسع، وهو أبو الريحان البيروني يذكر معلومات قيمة عما يسميه " بسفالة الزنج " وهى موزمبيق الحالية. ونجد أن هذا الكاتب يهتدي دون رؤية ولكن بمعرفته الفكرية إلى أن القارة الإفريقية لا تمتد إلى ما لا نهاية ولابد عند نهايتها أن يلتقي البحران اللذان يحنان بها من الغرب والشرق، أي لابد من أن يلتقي بحر الروم أو المحيط الأطلسي، والمحيط الهندي. ونجد أنه بعقلية الكاتب الرصين يسجل ذلك في نص قال فيه:
    " لاشك في وجود هذا الاتصال بالرغم من أن أحدا لم يستطع إثباته بالعيان، ولكنه أثبته نتيجة التفكير وليس بالمشاهدة ".
    بعد أن اتسعت المعلومات الجغرافية العربية أخذت طريقها إلى التخصص، وتظهر مؤلفات في الجغرافية تحمل أسماء متشابهة ومنها كتب الخطط. وقد كان أول من كتب في تلك الخطط كاتب مصري هو "المسبحى “، وكذلك كتاب المؤرخ “ المقريزى " وكتابه من أشهر كتب الخطط وهو كتاب " المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار “. وفى أوائل القرن العشرين كتب على مبارك كتابه " الخطط التوفيقية " وفيه يعطى وصف لمصر في جميع نواحيها في أوائل القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر .
    ومن الكتب العظيمة كتاب " عبد الغنى النابلسى " عن " وصف الفيوم " وهو رحالة من الشام وهو من أحسن الكتب التي تعطى صورة طبوغرافية المنطقة ونشاطها الاقتصادي في القرن الثالث عشر. ويمكن أن نقول بصفة عامة أن الجغرافيين العرب وهم يكتبون عن الجغرافية الإقليمية كانت فكرتهم شاملة وبذلك يهتمون بالإقليم من جميع نواحيه، ويهتمون بالجانب الإنساني قدر اهتمامهم بالجانب غير الإنساني أو الطبيعي، ويهتمون بدراسة التاريخ اهتمامهم بدراسة الجغرافية وذلك ما هو حادث الآن. وبذلك لا يمكن الفصل بين تاريخ المنطقة وجغرافيتها، وقد كان ذلك مفهوم العرب.
    وفى الدراسة الإقليمية لم يكن العرب لهم تخصصهم الموضوعي أو لم يظهر لديهم ولكن ألموا بالجغرافية وبالأخص النواحي الاقتصادية، وكان أهم النواحي التي يوجهون إليها عنايتهم هي شئون الري، وذلك لإيمانهم بأن الماء يلعب الدور الأول في الاقتصاد وقد كانت البلاد الإسلامية توجد في المناطق الجافة التي تقل بها موارد المياه، ولذلك اهتم العرب بالماء والري، فنجد المقدسى عند الكلام عن بلاد فارس يذكر أن شرقها لا توجد به أنهار ذا أهمية ولهذا كان من الضروري أن يجمع ماء المطر والمياه الجوفية حتى لا تضيع منها قطرة واحدة.
    ونجد الهمدانى يصف طرق الري في الجزيرة العربية فيقول: " أن المياه تجمع في البرك وتحاط بالحجارة ( وهى تسمى الخبرة – هي أرض مستوية تحاط بالأحجار حتى تحتفظ بالماء ) ، كذلك نجد أن هؤلاء الكتاب العرب يهتمون بتوزيع الغلات الزراعية ، ويذكرون الغلات التي تنمو في الإقليم وأهميتها وكان من أكثر الناس اهتمام بذلك، المقريزى في خططه فهو يعطى صورة جيدة لأحوال المياه في مصر في عصره ، وقد كان الري الشائع هو الري الحوضى، وقد كان بين الحياض جسور وقد قسمهم الكاتب ( المقريزى ) إلى قسمين:
    1- جسور سلطانية: وهى عامة النفع لحفظ النيل على البلاد كافة إلى حين يستغنى عنها، ويستخرج برسم عملها مال بأيدي العاملين في الديوان، ويصرف عليها والحكومة مسئولة عنها لأنها نفع عام، وحدث في أيام المقريزى أن أخذت الدولة في جبى الأموال الكثيرة بحجة حماية هذه الجسور ولكنه يقول: " ثم لا تصرف منها شئ البتة بل ترفعها إلى السلطان ويفرق الكثير منها بيد الأعوان، ويسخر أهل البلاد في عمل الجسور فيجئ الخلل " وهى نظرة فاحصة من المقريزى للوضع الكائن.
    2-الجسور البلدية: وهى عنده التي يختص نفعها في جهة دون أخرى والفلاحون وأهل المنطقة هم المسئولون عنها ونفقتها عليهم وليس على الحكومة ولكن على الإدارة المحلية، وبعد ذلك يقلل عنهم الخراج، وبذلك يكون مرد الصرف عليها إلى الخزانة العامة أي هي التي تمول في النهاية عمل الجسور البلدية.



    الجغرافية الاقتصادية عند العرب
    الزراعة في مصر على عهد المقريزى كانت مقصورة على شريط ضيق من الأرض على طول النيل والترع الخارجة منه، والدلتا في تلك الأيام لم تكن قد نضجت كلها ولكن كانت الزراعة بها على ضفاف فروع النيل في الدلتا التي توجد الآن والتي اندثرت، ويقول المقريزى: " النيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع يتفرق الماء فيها يميناً وشمالاً إلى البلاد التي تبعد عنه وأهم الخلجان وأكثرها يوجد في الوجه البحري، أما الوجه القبلي فهو قليل ".
    والزراعة كانت تتوقف على مياه الفيضان حيث الزراعة قائمة على الري الحوضى حيث لا سدود فإذا كان الفيضان مستوى نمت الزراعة وإذا قل قلت الزراعة، وإذا زاد الفيضان أو قل فإن الأمرين لا يأتي منهما سوى الدمار والخراب والتلف لممتلكات الإنسان في المناطق التي تتعرض لهما. ونجد المقريزى لم يتكلم عن الري والزراعة فقط ولكن يتحدث عن الدورة الزراعية والغلات التي تتعاقب فيها، وكمية التقاوي اللازمة لكل فدان ومحصول الفدان من كل غلة.
    ومما يسترعى النظر في كتابات المقريزى أن القطن كان يزرع في مصر في أيامه ولكنه يقول أنه يزرع في مساحات قليلة ولم يكن محمد علىأول من أدخل القطن إلى مصر. ويُذكر أن القصب أكثر انتشاراً منه وذلك يوضح قلة مساحة القطن. نجد أنه يتنبأ بأن هذه الغلات من غلات الصناعة حيث أنه في تلك الفترة لم تقم صناعة في مصر. ولذلك يقال أن القصب يجب أن يصنع منه السكر حيث أن الصناعة عليه لم تكن لإنتاج السكر ولكن لصناعة العسل الأسود.
    كما اهتموا الجغرافيين العرب بالثروة المعدنية إلى جانب اهتمامهم بالموارد الزراعية، فيذكرون المعادن التي في الأرض العربية وأين توجد تلك المعادن وأنواعها، وقيمتها وكمية المستخرج منها والجهة المصدرة إليها. ولا يخلو كتاب عربي من الكتابة عن الثروة المعدنية، ومفهومهم عن المعادن لا يختلف عن المفهوم المعروف الآن. بينما في حديثهم عن الجغرافية الاقتصادية لا يغفلون جغرافية الصناعة، ويفصلون في كتابة جغرافية الصناعة وليس الكتابة في جغرافية الموارد الأخرى.
    ونجدهم قد تناولوا الصناعة بشئ من التفصيل، وفى بعض الأحيان في الكتب العربية يتناولون المراحل التي مرت فيها الصناعة، أي لا يذكرون مناطق الصناعة ولكن يذكرون مراحلها كذلك، ونجدهم يعددون المراكز الصناعية الكبرى في العالم الإسلامي، وبذلك يحددون المراكز الكبرى في كل قطر من أقطاره مثل دمياط في مصر فبعد الكلام عن موقعها وتاريخها يذكر أهم ما بها من صناعات.
    وتهتم الجغرافيا الاقتصادية العربية بذكر التبادل التجاري بين أقطار العالم الإسلامي وغيرها من الأقطار الأخرى غير الإسلامية، وتذكر صادرات الدول إلى بعضها وهل هي صادرات من الخام أو مصنعة، وكذلك يتحدثون عن الواردات. و لم تكن الدراسات العربية دراسات رقمية والجغرافيون العرب معذورون في ذلك حيث أنه لم تكن توجد أرقام إحصائية في ذلك الوقت عن موارد الإنتاج والصادرات والواردات.
    ثم نجد الجغرافيين العرب لا يكتفون بالوارد والصادر فيما يختص بالتجارة ولكن يدرسون مراكز التجارة ومواني تصديرها، وحركة التجارة في هذه المواني، وفى نفس الوقت يدرسون عوامل الربط بين هذه المراكز أي يعنون بالطرق ومراحلها أي جغرافية النقل والمواصلات، كما لم يكتفون الجغرافيين العرب في الجغرافية الاقتصادية بالجانب الوصفي ولكن يعمدون إلى الجانب التحليلي وظهر ذلك بوضوح في مقدمة ابن خلدون، فهو لم يتناوله الإنتاج الاقتصادي تناول وصفى ولكن يحللها إلى أسبابها، ورغم أن منهج الجغرافية الاقتصادية العربية ليس كما هي الآن ولكن كان بها مادة غزيرة، وإذا طوعناها إلى المنهج الحديث لخرجنا بمادة وافية عن اقتصاديات العالم الإسلامي. وكانت الجغرافية الاقتصادية تتناول موضوع أخرى هو دراسة الأمصار ( المصر أي المدينة).
    قسم العرب العالم إلى الحضر والمضر. والحضر هم المتوطنون المستقرون ، والمضر هم سكان البادية. و ينقسم الحضر إلى سكان الريف وسكان المدن، وقد قسموا الحضر إلى فئات ومنها: المصر وهى عاصمة الدولة أو الإقليم، وبعد ذلك القصبات وهى عواصم الأقاليم في الدولة، ثم المدن الإقليمية أو الحواضر، ثم الضواحي أو الأحواز ثم أخيراً القرى، وهذه هي أقسام الحضر عند العرب. بينما تختلف المدن عن القرى في نظر العرب في أن كل مدينة فيها منبر( وهو الوظيفة الدينية المعين فيها شخص ديني من قبل السلطات يشرف على النواحي الدينية وليس المنبر الذي في المسجد ).
    وقد ركزوا بصفة خاصة على مواضع المدن وحاولوا أن تفسير هذا الموقع وقد اعتنوا بصفة خاصة بموقع مكة، وتفسير ما جاء في القرآن من قوله تعالي:" ربى إني أسكنتُ من ذُريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي أليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " وقد أسرفوا في تحليل الموقع، و لم يكتفوا بالموقع الطبيعي ولكن كذلك اهتموا بالعلاقات المكانية مع الجيران، وهل هي علاقات تقوى من أهمية الموقع أم تقلل منه.
    ونجد العرب يقارنون موقع المدن ببعضها البعض أي أن لهم نظرة شمولية، ونجد في كتابات العرب بعض الأشياء أقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع ومنهم المقدس والذي يقول عن القدس : " إن بيت المقدس يقع في سهل يحشر فيه الناس يوم القيامة ". وذكروا في كتاباتهم فضائل المدن ووجدوا لكل مدينة بعض الفضائل، وفي بعض الكتب عن المدن سبق اسم المدينة تلك الفضائل التي تشملها مثل كتاب فضائل مكة، وفضائل المدينة وغيريهما.
    من النواحي الأخرى التي عنى بها العرب في دراسة المدن موارد الماء في هذه المدن وهى التي يتوقف عليها نمو المدينة، فنجد الإصطخري عند الكلام عن سمرقند قال: " أنه لم يرى خان في الشارع إلا ورتبت فيه المياه المثلجة، ولها ماء جارى يدخل فيها في نهر من رصاص، وهو نهر قد بنيت له مسناة عالية من حجارة يجرى عليها الماء ووجه النهر رصاص كله ".

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/