محمد مدحت جابر- أحد رواد التجديد الجغرافي

كوكب الجغرافيا مايو 13, 2019 مايو 13, 2019
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A
محمد مدحت جابر- أحد رواد التجديد الجغرافي

أ.د. فتحي محمد مصيلحي

  عرفته في مطلع تسعينيات القرن العشرين عندما إنتدبته للتدريس بمرحلة الليسانس بقسم الجغرافيا بجامعة المنوفية بمرحلة النشأة الأولى للقسم، وشاركنا بالدراسات العليا إشرافاً ومناقشةً وتدريساً، وربطتنا صداقة تقوم على الإحترام المتبادل وثقافة التجديد في البحث الجغرافي. 

  ورغم تخصصه في جغرافية العمران التقليدي بمرحلة الدكتوراة لكنه تحول إلى الإهتمامات الجغرافية المعاصرة في الجغرافيا الطبية والجريمة، وكان جهده في هذا لم يكن مرصوداً لتبعثره بين المجلات العربية، وهذا ما دفعني أن أنصحه في أحد رحلاتنا الأسبوعية من القاهرة إلى جامعة المنوفية بتجميع تلك المشاركات البحثية في كتب يتم نشرها حتى يظفر بها الطلاب بمرحلة الليسانس وما فوقها، وفعلها الرجل وأثرت كتاباته في المدرسة الجغرافية، وفتحت شهيته لمزيد في مجالاته التنظيرية القديمة بالجغرافية الصحية والجريمة، وزاد عنها في الجغرافيا الثقافية، ولكنني كنت دائم الترقب لإصدار فكري تطبيقي يؤطر فكره التنظيري المعاصر. 

محمد مدحت جابر والجغرافيا الثقافية :

  اهتمت الجغرافيا الحضارية لدى ساور في العشرينيات بقضايا تطور المشهد الأرضي والإقليمية مع التركيز المتزايد على البيئة الإيكولوجية بحلول أواخر الخمسينيات.

  كما ضع أوزوالد سبنجلر فى دراسته عن أفول الغرب Decline Of west فى 1926 أن المجتمعات كالكائنات الحية لها دورة حياة من الشباب والنضج والشيخوخة، وقد اقتبسها هربرت سبنسر فى دراسته عن علم الاجتماع(1972) ، وقام توينبىTounbee باستعارتها وتعديلها فى دراسة التاريخ فى(1934) ، كما قام ديفيد كلارك بتشكيل النموذج الخاص بالميلاد والنمو والموت كواحدة من "نظم تطور الحضارة ككائن حى من خلال مراحل متولدة ومتلاحمة(قمة كلاسيكية) ومستمرة فى التلاحم، كما طرحه بوتزر(1976-1980) ووصفه بالإشارة إلى مصر القديمة تحت عنوان الحضارات (كائنات عضوية أم نظم) Civilization: Organisms Or Systems حيث ينتظم التاريخ السياسي لمصر فى دورات متعددة من المملكة القديمة(2760-225 ق.م) والمملكة الوسيطة(2035-1668 ق.م) والمملكة الحديثة(1570-1070ق.م)، فكلما يصل إلى قمته فى فترة من الحكومات المركزية القوية، تلاها فترة طويلة من الركود والأفول النهائى.

  وبحلول منتصف القرن العشرين لم يعد كثير من الجغرافيين يطيقون قيود المنهجيات الوضعية أو الطبيعانية : فأدرك بيير ديفونتين Deffontaines إن أهم أحداث التاريخ الجغرافي للأرض هو ظهور نوع من المجال الخاص مع الإنسان يمكن تسميته ثوتوسفير أو المجال الفكري الذي أسماه شاردين Chardin نوسفير أي المجال اللامادي الذي يقع ضمن حدود المشهد الأرضي. وهذه قضية تطوير للفكر الحر للإنسان وعملية هيمنة علي الطبيعة وفرض السيادة عليها.

  أتخذ الجيل الثاني من أتباع ساور مسارات متفرقة لكن كل منهم كان يمثل عنصراً من تراث مدرسة بيركلي Berkeley بما في ذلك دراسات مشهد الأرض. وتاريخ الحضارة والتبيؤ الحضاري التاريخي وإنتشار الحضارة المادية، وظهر اهتمام بمواضيع ذهنية أكثر مثل اللغة والاتصال والدين لكن ذلك في إطار قيود الوضعية (Sopher 1972 ) .

  وبدأ موضوع اللغة والاتصال يدخل في دراسات الجغرافيا الحضارية بشكل مختلف جداً عن الماضي، فلم يعد الجغرافيون ينظرون إلى اللغة كحقيقة يتم التعبير عنها بالنظر إلى خريطة التوزيع، بل كمصدر لنقل تقنيات إتصال ونقل المعنى.( Curry 98).

محمد مدحت جابر وجغرافية الصحة:

  ظهر أول تعريف يقدم الصحة كوحدة إيجابية أى كشئ محسوس في عام 1946 بمقدمة دستور منظمة الصحة العالمية: أن الصحة هي حالة من الصحة الاجتماعية والعقلية والجسدية الكاملة وأنها ليست مجرد حالة يغيب فيها المرض. وإن كان لهذه المقولة أهمية لكنها تحتاج لمعايير فهى تبقى مثالية وغير واقعية. 

  أما تعريف ماي(1961) فقد قال أن المرض هو هذا التغير في الأنسجة والخلايا الحية الذي يحل بالكائنات الحية في بيئتهم. ويحتوى هذا التعريف على عدد من النقاط الهامة؛ أن كل كائن حى له بيئة ينتمى إليها، وأن فكرة المرض الذي يهدد البقاء ويحدق بالكائنات تعنى ضمنياً أنه ربما تكون هناك مستويات مختلفة من الصحة دون أن يكون هناك مرض.

  وقد جاء Dubos عام 1965بتعريف له وجاهته "حالات الصحة أو المرض هي تعبير عن نجاح أو فشل تحققه أو تمنى به جهود الكائن في محاولاته للإستجابة إلى التحديات البيئية بشكل ملائم. فالصحة لها سمة ديناميكية. ومع ذلك فإن هذا التعريف يعرف سبب الصحة وليس ماهيتها.

  قدم رالف أودي(1971) تعريفا بأن "الصحة هي خاصية متواصلة يمكن قياسها حسب قدرة الفرد على التغلب على مجموعة كبيرة وضخمة من الإصابات والمخاطر المحدقة التي قد تكون كيميائية أو جسدية أو معدية أو سيكولوجية أو إجتماعية.

  قام Pattison عام 1995 بتحديد التقاليد البحثية الأربعة في الجغرافيا الطبية هي المكان (الحيز) والإقليم والبيئة البشرية وعلم الأرض. 

محمد مدحت جابر وجغرافية الجريمة:

  بقرب انتهاء الستينيات ظهرت الجغرافيا الاجتماعية الراديكالية، حيث أصبح عدد متزايد من الجغرافيين أشد صراحة في إنتقادهم لإخفاقات العلم المكاني في معالجة قضايا عدم التكافل الاجتماعي والظلم الإجتماعي فاعترضوا علي تشديد هذا العلم المكاني على الأشياء المادية أي التي يمكن تحديدها وإحصائها وقياسها ورسمها وتوضيحها علي خرائط هذا بجانب تجاهل العلاقات اللامادية والقوي والهياكل، وما شابه ذلك .

  وكان هناك رغبة في جعل هذا المبحث أكثر إدراكاً إجتماعياً وأكثر صلة في البعد الاجتماعي، ومن مؤشرات هذا التطور حالة اللقاء السنوي للجمعية الجغرافية الأمريكية في بوسطن عام 1971 م عندما بدأ الجغرافيين المهنيون برمتهم في قبول جدول أعمال أكثر شمولية عما سبق، وكان هدف الكثيرين في اجتماع بوسطن إيجاد شعور أعمق للبعد الاجتماعي في الجغرافيا البشرية.

   وأوجز الجغرافي البريطاني ديفيد سميث عام 1971هذا التحول فيما أسماه الجغرافيا الراديكالية الناشئة بإشارته المتكررة إلي المملكة الإجتماعية بقوله بمنطقية دراسة الظواهر الإجتماعية التي دأبنا علي تجاهلها وهي تضم الفصل العنصري والفقر والجوع ووفيات الأطفال ومعدل الوفاة وإدمان المخدرات والمرض العقلي والانتحار واللاشرعية والإنحراف الجنسي وخدمات الرفاه الطبيعية والجريمة والعدالة والحرمان الاجتماعي في مناطق ما وهكذا، وتعد معايير أقوي للتمايز المكاني مقارنة ببعض الظواهر الفيزيقية والإقتصادية التي إهتممنا بها جدا .

  نرى في الجزء الأخير من هذا المقتطف أن سميث يردد أراء واطسون ويعيد صياغة هارتشورن بأن أشار إلى الظواهر الاجتماعية اللامادية وليس فقط الفيزيقية والاقتصادية، وهذه قد تكون عوامل إختلاف هامة من منطقة لأخرى، لكن ما اعتبره سميث عناصر البعد الاجتماعي هو الأهم، ونرى هنا أساس الجغرافيا البشرية ذات الصبغة الاجتماعية Socialized الجديدة والتي تضع مبحث الجغرافيا الاجتماعية في قلب المشروع الجغرافي البشري الكلي.

  فإذا كان محمد مدحت عبد الجليل قد مات بجسده، ولكنه أنار الطريق لأجيال قادمة لو أرادت أن تسلكه، طريق التنوير والتجديد الجغرافي، رحمة الله عليه.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/