أماكن مجهولة في أدب الفيوم ا.د. عاطف معتمد

كوكب المنى يناير 16, 2022 يناير 16, 2022
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A

 أماكن مجهولة في أدب الفيوم ا.د. عاطف معتمد

تخيل لو أن لدينا في كل إقليم مصري أدبا خاصا بتجليات المكان، آماله وهمومه، سيكون لدينا في النهاية لوحة كبيرة للأدب المصري فيها عشرات قطع الفسيفساء التي تشكل الموزايك الكبير.



هذا ما تشعره تماما وأنت تقرا لأدباء النوبة، وتشعر به وأنت تقرأ أعمال أدباء الدلتا أو غيرهم من كتاب أقاليم مصر بتعدد خصوصيتها، ولكننا في الأغلب لا نعرف سوى "حارة نجيب محفوظ" ونحتفي كل سنة ثلاث مرات به: يوم مولده، ويوم رحيله،ويوم حصوله على نوبل، تماما كما نفعل الآن احتفالا بميلاد عبد الناصر، ووفاته وتنحيه..وكل مناسباته. 


جميل أن نحتفل بالعظماء، لكن الأجمل أن نبحث عن مواليد جدد في الحاضر، وما دمنا نتحدث عن الأدب فلابد أن هناك أدباء جدد يولدون في كل مكان من أقاليم هذه البلاد. 

المجموعة القصصية التي بين أيدينا لمؤلفها إبراهيم المطولي 

والتي تحمل عنوان "حنين إلى العافية" تحمل سببين كبيرين للاهتمام بها، الأول أنها عن الفيوم، وهذا في حد ذاته يمنحها أهمية لأداء أمانة المؤلف تجاه موطنه.


أما السبب الثاني فلأن مؤلفها يكتب عن صالات المستشفيات وغرف العمليات وهي فضاءات مكانية يندر أن نجد من يكتب عنها من الأدباء. 

لا يكتب مؤلفنا هنا لأنه طبيب، بل هو أحد أعضاء هيئة التمريض. ولعلها مرة نادرة نقرأ فيها أدبا لممرض، وإذا كنا نحتفل بالأدباء الأطباء في الشعر والقصة والرواية فإن مؤلفنا هنا يهدي مجموعته القصصية قائلا "إلى زملائي في التمريض: من هنا حتى أبعد نقطة في الأرض".


تفتتح المجموعة القصصية باقتباس من قصيدة لأمل دنقل (أوراق الغرفة 8) خلال أيامه الأخيرة في المستشفى وهو يرى قبل الموت كل شيء حوله أبيض اللون: نقاب الأطباء، لون المعاطف، تاج الحكيمات، أردية الراهبات، لون الأسَّرة، أربطة الشاش، القطن، قرص المنوم وكوب اللبن. يقول أمل دنقل "كل هذا البياض ....يذكرني بالكفن".


هذا الاقتباس وثيق الصلة بالأيام الأخيرة لبطل القصة الأولى وهو نفسه والد الراوي الذي يحدثنا عن ملحمة رجل ريفي في الفيوم، نحيل أسمر، أنفق شبابه في حمل الرمل والزلط في عمارات يسكنها أناس أيسر حالا في القاهرة. في نهاية كل أسبوع يعود الرجل المكافح ومعه كيسان من البلاستيك الأسود: واحد فيه تفاح أحمر هدية للأطفال والآخر فيه ملابسه المتسخة  بمواد البناء.


أكلت هذه المهنة صحة الرجل وورث من بيئته المرض الشهير "التهاب الكبد الوبائي" وبالتدريج  تنسحب كل مقومات القوة والسلطة والتأثير والمهابة من الرجل ليصبح مجردا من أي سلطة في عائلته، لم يعد أحد يخشاه، حتى الغربان لم تعد تخشى  جلبابه في الغيط وصارت تقف عليه بكل وقاحة.

يشتد المرض، يتآكل الجسد، ويحلم صاحبنا  بشعور جارف و"حنين إلى العافية"...لكن هيهات.


لعل هذه القصة كانت نقطة تحول في حياة الراوي فقد تسبب مرض أبيه في ترك التعليم والاكتفاء بدراسة التمريض بديلا عن الدراسة الجامعية.

يأخذنا الراوي الممرض معه في قصة "اليوم الأول" إلى بدايات عالمه الجديد بعد التخرج ليصبح ممرضا في ذات المستشفى التي لفظ فيها والده أنفاسه الأخيرة، يصور بالكلمات خلية النحل في المشفى الذي يعمل فيه من لحظة الدخول من بوابة الأمن وصولا إلى غرفة العمليات. 


وسط عشرات الممرضات والأطباء الجدد الذين يتفاوتون بين الثقة والغرور والخبرة والرعونة تقع عيناه على "يسر" بردائها الأزرق وتوزيعها للأعمال على  طاقم العمل.  تعلمه "يسر" كيف يناول الجراح آلات العمليات، وكيف يكون يقظا؟ وكيف يتوقع الأدوات قبل أن يطلبها الطبيب .


وكما هو متوقع في سن الشباب، تصبح "يسر" سر العالم لهذا الممرض الجديد: حين تأتي يكتسب العالم توازنه، وحين تغيب عن العمل يسير العالم مختلا بلا اتزان. 

صارت يسر حلما، يذهب معه الراوي في أحلامه إلى شاطئ بحيرة قارون قرب الفندق الشهير يجلسان معا يحدقان في الماء، يحكي لها بطلنا عن أساطير كنز قارون في البحيرة وقصور الجنيات، يتابعان الصيادين وهم يعودون بالسمك، يسلموه لأطفالهم الصغار الذين يشبكون الأسماك معا في ضفائر من سعف النخيل ويقفون بها على طريق البحيرة يلوحون بها للمسافرين لمن يشتري.

يهدي إبراهيم إلى يسر عقدا من قواقع البحيرة، جمعته الفتيات الصغيرات من أصداف لها رائحة البحيرة، وقوام هش كالأحلام ..أحلام سرعان ما تذوب.

يحزن إبراهيم ويسر لأجل الفيلات الغارقة في البحيرة، كانت تلك الفيلات قديما منازل للفرح، الآن آكل ملح البحيرة أعمدتها وصارت مأوى للحمام والأسماك الهاربة من الصيادين. 


خلافا لهذه القصة الرومانسية يمضي بنا المؤلف في مجموعة من القصص أقرب إلى تصوير دقيق لنمط العمل اليومي في المستشفى، يمكنك أن تقف أمام هذا التصوير منقبضا باعتباره نقلا أمينا لدرجة تقترب من الوصف التصويري وفيه مفردات كثيرة عن الأدوية والدماء والمطهرات وانتقال العدوى ويمكنك أن تعتبره تصويرا توثيقيا بلغة أدبية يقدم جرس إنذار وتنويه عن حال مجتمع التمريض والمخاطر التي يتعرضون لها والكوابيس التي تفزعهم في ساعات الليل.


تتألف هذه المجموعة القصصية من 15  قصة لا تهدف إلى بلوغ المعنى التقليدي الذي يسعى إليه الراغبون في "متعة" القراءة، بقدر ما تهدف إلى سرد حكايات واقعية عن مسببات الألم وتفاصيل أحد اكثر الأماكن التي نخشى الاقتراب منها: "المستشفيات"، وهي ليست مستشفيات الأثرياء المريحة في المدن الكبرى بل مستشفيات عامة حكومية في إقليم هامشي بعيد عن التنمية اسمه "الفيوم".


حين تكثر عند أحد الأدباء حكايات الموت والمرض والانقباض نتعجل فنسارع بأن نصفه بأنه كاتب سوداوي أو أن حكاياته قابضة للنفس، لكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك، إنه يشير إلينا بطريقة غير مباشرة إلى الأسباب التي تشكل الألم والمرض، وهو يفعل ذلك لأنه يريدنا أن نتجنبها وننجو منها.

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/