المشهد التاريخي .. كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي - جون لويس غاديس.pdf

كوكب الجغرافيا أغسطس 02, 2020 أغسطس 02, 2020
للقراءة
كلمة
0 تعليق
-A A +A


المشهد التاريخي .. كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي - جون لويس غاديس.pdf



يتشابه عمل المؤرخ كثيراً مع عمل آلة الزمن التي تتكرر في أفلام الخيال العلمي. فلطالما امتلك المؤرخون القدرة على الانتقاء والتزامن وتغيير المقياس، بحيث يمكنهم انتقاء ما يرونه مهماً من بحر الأحداث.
جون لويس غاديس هو مؤرخ أميركي ولد في عام 1941، يعمل في تدريس التاريخ العسكري والبحري في جامعة ييل في الولايات المتحدة الأميركية، اشتُهر من خلال أعماله عن الحرب الباردة، وقد حصل على العديد من الجوائز العلمية المهمة، ومنها جائزة "البوليتزر" في عام 2012، ومن كتبه: "نحن الآن نعرف"، "السلام الطويل"، و"استراتيجيات الاحتواء".
في كتابه "المشهد التاريخي: كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي"، يرى جون لويس غاديس أن مشاركة المؤرخ في الحدث، لا تعني بالضرورة إلمامه بكل تفاصيله وخيوطه ودقائقه، فالخبرة والمعايشة المباشرة للأحداث ليست أفضل السبل لدراستها.
فبحسب تعبير غاديس: "عندما تحاول الحفاظ على حياتك وسط مجاعة أو الهروب من عصابة قطاع طرق أو القتال مرتدياً لباساً حديدياً سابغاً، فإنك ستعجز عن القيام بدور المؤرخ، فليس من المعقول إنك ستجد الوقت لمقارنة الظروف في فرنسا القرن الرابع عشر الميلادي بظروفها تحت حكم شارلمان أو الرومان، أو مقارنة التوازيات المحتملة في الصين في حقبة مينغ أو بيرو قبل كولومبس".
وعلى هذا فإن التأريخ للماضي عند غاديس أفضل بكثير من التأريخ للحظة الراهنة، ذلك أن النوع الأول ذو نظرة أكثر شمولاً واتساعاً، حيث تتيح مرور السنوات للمؤرخ أن ينظر للحدث بشكل تجريدي وصفي يبتعد عن الأهواء والميول.
ويلاحظ غاديس أن الوعي التاريخي الحقيقي يتحقق مع مرور السنين، وهو يفسّر ذلك بأن النضج الإنساني يحدث مع معرفة البشر بأن تاريخهم على الأرض موغل في القدم، مما قلل من اهتمام الإنسان بنفسه، وجعله يعرف أن العالم والكون ليسا مقصورين عليه هو فحسب.
ويلفت الكاتب النظر إلى أن الوعي التاريخي قد أزاح الإله عن مكانته المركزية، فلم يعد هناك غير الإنسان فحسب، وهو الأمر الذي أدى إلى تقليل دور الحضور الإلهي في تفسير شؤون الإنسان، كما أتاح ظهور وعي علماني ألقى بمسؤولية ما يحدث على أهل كل عصر وحدهم دون غيرهم.
ومن أهم المصاعب، التي يلفت غاديس النظر إليها، الصراع الذي ينشأ لدى المؤرخ في تصوير الأحداث بدقة وصرامة وكيف يقوم بالتأريخ للحدث بكتابة تشبه السيناريو والتي تظهر فيها انفعالات الأفراد وأصوات الجنود في المعارك مع الرغبة في التجريد لاستخلاص ما يمكن أن يكون منطقًا للحدث التاريخي، فالطريقة الأولى (الاقتراب والتعايش) تشبه الاقتراب بالكاميرا من بطل في فيلم تاريخي، أما الطريقة الثانية (التجريد) تشبه صوت المعلق في نهاية الفيلم مستخلصًا العبرة النهائية.

المؤرخ بين الزمان والمكان

يرى المؤلف أن عمل المؤرخ يتشابه كثيراً مع عمل آلة الزمن التي تتكرر في أفلام الخيال العلمي. فلطالما امتلك المؤرخون القدرة على الانتقاء والتزامن وتغيير المقياس، بحيث يمكنهم انتقاء ما يرونه مهماً من بحر الأحداث، كما يمكنهم الرجوع إلى معاصرة أزمنة وأمكنة عدة، مما يجعلهم قادرين على الاقتراب من الصورة أو الابتعاد عنها، والتنقل بين مستويات التحليل الشامل التفصيلي.
ومن أهم المزايا التي تتاح للمؤرخين في عملهم البحثي هي: الانتقائية والتزامن والقياس.
الانتقائية، تقف على رأس المزايا المتاحة للمؤرخ، حيث يمكن للباحث التاريخي أن يختار أن يدرس نقطة معينة في الماضي دون غيرها، كما أنه بالإمكان أيضاً أن يقوم بربط عدد من الوقائع مع بعضها البعض برغم تباعدها زمنياً.
التزامن، أيضاً إحدى القدرات المدهشة للمؤرخ، فهي تتيح له القدرة على الوجود في أكثر من مكان أو زمان، ومن أهم الأمثلة على ذلك، وصف المعارك.
فمثلاً، يقدم المؤرخ جون كيغان وصفاً كلاسيكياً ممتعاً لمعارك أجنكورت ووترلو، حيث أستقى تفصيلاته من جانب العديد من الأشخاص الذين شاركوا في المعركة بشكل أو بآخر، وذلك رغم أنه لم يشارك في أي منهما، حيث قال بوضوح في مقدمة كتابه: (لم أشهد معركة قط، ولم أقترب من معركة، ولم أسمع واحدة من بعيد، ولا رأيت مخلفاتها).
أما المقياس، فهو ثالث الطرق التي تتجاوز بها آلات المؤرخين الزمنية قدرة مثيلاتها في قصص الخيال العلمي، وذلك في السهولة التي يحوّلون بها مقياس التمثيل من الإجمالي إلى التفصيلي ثم العودة مرة أخرى إلى الإجمالي.
ويقصد غاديس بالتمثيل، كيف أن المؤرخ يستطيع أن يتناول حادثة صغيرة ذات أثر محدود وبسيط، وأن يتماشى في تحليلها ليربطها بواقع كبير ومتسع، ثم يعود إلى دراستها في معزل عن هذا الواقع.
ويضرب مثالاً على ذلك، بكتاب ماكنيل المسمى بـ"البحث عن القوة"، حيث ركز فيه على دور التكنولوجيات العسكرية في تحديد موقع القوة السياسية ومداها على مدار السنوات الألف الماضية. وفي كتابه الأحدث المعنون "معاً في الزمان"، تطرق ماكنيل إلى أمر بسيط كالحركة الإيقاعية الجماهيرية، مثل الرقص والتدريب البدني والتمرينات الرياضية، وبيّن كيف تسهم تلك الأنشطة في إتاحة قاعدة للتماسك الاجتماعي ومن ثم التنظيم الإنساني.

ولكن ما هو الزمن؟

يرى غاديس أنه من المفترض قبل أن يُعمل المؤرخون أدواتهم البحثية التاريخية، أن يتوصلوا إلى تعريف واضح لمعنى كلمة الزمن، وهو هنا يستند إلى تعريف لابينيتس الذي يعرّف الزمن بكونه "ترتيب الأحداث غير المتعاصرة". ويظهر غاديس عدم رضاه على استخدام مثل ذلك التعريف، فيقول إن ذلك التعريف يشتمل على كلمات مثل ترتيب ومعاصرة، وهي كلمات تقوم بالأساس على مفهوم معيّن للزمن، أي إن الكلمة تُعرّف بذاتها، ويعلّق المؤلف على ذلك قائلاً:
"كيف، إذن نفكر في شيء نحن جزء منه ثم نكتب عنه؟ اعتقد أننا نفعل هذا أولاً، بإدراك أن الزمن نفسه بالرغم من أنه خط متواصل بلا انقطاع، لا يبدو كذلك لمن يعيشون فيه، إن أي شخص لديه الحد الأدنى من الوعي، يرى الزمن منقسماً مثل أهل بلاد الغال القديمة، إلى ثلاثة أقسام: ما يقع في الماضي، وما سيحدث في المستقبل، والأصعب في الإدراك، هو ذلك الكيان المراوغ الذي نسمّيه الحاضر".
فبينما كان القديس أوغسطين يتشكك في مجرد وجود الحاضر، ويصفه بأنه يطير بسرعة مذهلة من مستقبل إلى ماضٍ؛ فإن المؤرخ كولينغوود قال - بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان – "إن الحاضر وحده هو الحقيقي، وأكد على مركزيته في مقابلة كل من الماضي والمستقبل".
ويحاول غاديس أن يُعرّف الماضي والحاضر والمستقبل، في ضوء ما يسمّيه نظرية العوارض والمتواصلات، حيث يرى أن المتواصلات هي الأنساق التي تمتد عبر الزمن، وهي ظواهر تقع بقدر كبير من الانتظام الذي يتيح لنا أن نلمسها ونراها، وأن نجعل منها أساس للتعميم والخبرة الإنسانية. أما العوارض فهي التي يراها غاديس أحداثاً طارئة لا تُشكّل انساقاً. يقول غاديس: "يمكن أن نُعرّف المستقبل بأنه المنطقة التي تتعايش فيها المتواصلات والعوارض في استقلالية عن بعضها بعضاً، والماضي بأنه المكان الذي تثبت فيه علاقتها بلا رجعة، والحاضر بأنه الفريدة الفلكية التي تجمعهما، وهكذا تتقاطع الثوابت مع العوارض وتواجه العوارض الثوابت ومن هذه العملية يُصنع التاريخ".

ولكن كيف نُعرّف المكان؟

بعد أن يُنهي غاديس تعريفه للزمان، فإنه ينتقل إلى الحديث عن المكان، فيعرّفه ببساطة بأنه "موضع وقوع الأحداث، وباعتبار أن الأحداث ممرات من المستقبل عن طريق الحاضر إلى الماضي".
فإذا كان الزمان والمكان يمثّلان الميدان الذي يحدث التاريخ فيه، فإن البنية التاريخية تتكون من الرواسب المتخلفة من جراء عملية التفاعل التاريخي.
ومن تلك الرواسب فقط، يستطيع المؤرخ أن يعمل مبادئ وأدوات التفكّر، ليحاول الوصول إلى ما حدث فعلاً في الماضي، وفي هذا يقول عالم الاجتماع جون غولدثورب إن "الحقيقة التاريخية هي استنتاج استُخلص من آثار".

ولكن هل تلك الطريقة في النظر للتاريخ تجعل منه علماً مميزاً مثل باقي العلوم المعروفة؟

يؤكد غاديس أن العلم له ميزة فوق كل أشكال البحث، فقد أثبت أنه قادر على استخلاص الاتفاق على صحة النتائج عبر الثقافات واللغات المختلفة، فالحمض نووي ريبوزيDNA) )  مثلاً يبدو بالشكل نفسه في مختبرات كل من سويسرا وسنغافورة وسريلانكا. كما أن أجنحة الطائرات تتحمل الضغط نفسه، سواء كانت تلك الطائرات تابعة للخطوط الجوية الأميركية أو الصينية، ومن هنا فإن غاديس يوافق على رأي جون زيمان الذي يقول فيه "إن ميزة العلم أنه يقدم إجماعاً على رأي عقلاني على أوسع نطاق ممكن".
هناك عدد من المؤرخين الذين نظروا إلى التاريخ بكونه علماً، ومن هؤلاء مارك بلوخ، الذي استشهد بنظرية التطور لداروين في مركزية التاريخ وحجيته على العلم.
ويورد غاديس عدداً من الأسباب التي تشكك في اعتبار التاريخ علماً، على رأس تلك الأسباب، تأتي قابلية العلوم لإعادة الإنتاج مع إعادة التجربة، فمن المعروف أن المشاهدات التي تنتج عن إجراء تجارب علمية معملية متوافقة تخلف نتائج متشابهة، فالرياضيون مثلاً عندما يعيدون حساب ثابت الدائرة، فهم يثقون أنه في كل مرة ستبقى القيمة الناتجة واحدة وثابتة.
وفي الفيزياء والكيمياء، يحصل الباحثون على نتائج مختبرية متشابهة عندما يجرون تجارب مختبرية في ظروف متشابهة، وهو ما يلخّصه المؤلف بأنه في حالة تكرار العمليات نفسها بتكثيف الزمان والمكان والتحكم بهما، فإن التاريخ نفسه يُعاد تشغيله.
لكن ليست كل العلوم تعمل بذلك النهج، ففي علوم الفلك والجيولوجيا، نادراً ما تتوافق الظواهر داخل المختبرات مع بعضها البعض، ولعل البحث العلمي في تلك العلوم بالتحديد يتشابه مع البحث التاريخي في كونه من الصعب الحصول على إجابات قاطعة ومتكررة للأسئلة نفسها.
ومن هنا فإن المؤلف يلاحظ أن قصر صفة العلم على العلوم التجريبية هو أمر خاطئ بشكل كامل، ويستشهد على ذلك بإجابة أحد الطلبة في جامعة ييل، عندما قال له: "ينبغي أن نركز على تحديد أي العلوم هي علوم تاريخية، حيث يقع التمييز على الخط الفاصل بين قابلية التكرار الحرفي بوصفها معيار الأستوثاق أي إعادة التجارب داخل مختبر وقابلية التكرار الافتراضي وهي ترتبط بالتجارب الذهنية".

الاستشعار عن بعد

يرى غاديس أن واحداً من أبرز المميزات التي يتصف بها علم التاريخ، هي كونه يشترك مع العلوم التطورية في ممارسة الاستشعار عن بعد على الظواهر التي لا يمكن التفاعل معها بشكل مباشر.
ويضرب المؤلف مثالاً على استخدام التاريخ في الاستشعار عن بعد، وهو اكتشاف الصواريخ الروسية متوسطة المدى وبعيدة المدى في كوبا في عام 1962. تبدأ القصة عندما قام الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف بإدخال تلك الصواريخ إلى الجزيرة الكوبية، بصورة سرية، واستعان في ذلك بالنخيل الذي يملأ الجزيرة. وعندما حلقت الطائرات الأميركية فوق الجزيرة، شاهد أحد الطيارين الأميركيين قواعد الصواريخ السوفياتية، ورغم أنه لم يميّزها ولم يكن قد دار في خلده أبداً احتمال أن توجد مثل تلك الأسلحة الفتاكة في الجزيرة الكوبية، إلا أنه أبلغ قيادته بأن ما شاهده يتشابه مع القواعد الصاروخية السوفياتية التي قد شاهدها أثناء تدريبات سابقة. بعد ذلك تم تصوير تلك القواعد، وتم التأكد من خطورتها، وتم إبلاغ الرئيس الأميركي جون كيندي بالأمر برمته.
في هذا المثال، يقسّم غاديس الاستشعار عن بعد إلى ثلاث مراحل، وهي الواقع على الأرض، ما تبيّن للخبراء من هذا الواقع، وما أقنعوا به رؤساءهم.
يعتقد المؤلف أن طريقة عمل المؤرخين، تتشابه مع طريقة علماء الحفريات وعلماء الخرائط، حيث يسعون إلى الوصول إلى توافق على ثلاثة مستويات مختلفة من النشاط، فعندما نروي حدثاً أو سلسلة أحداث، فنحن نبدأ بما لدينا وهو في المعتاد سجلات أرشيفية وهي ما يوازي العظام والأجساد أو الأرض. بعد ذلك تأتي مرحلة تفسير وجهات النظر المختلفة، حيث يتداخل الخيال والتصوير الدرامي، ويبدأ المؤرخون في محاولة نسج قصة أو حكاية مكتملة الأركان.
أما المرحلة الثالثة فهي عرض الحكاية للجمهور، وعند هذه النقطة قد يوافق الجمهور أو يرفض، وهنا من الممكن أن يقوم المؤرخون بمراجعة آرائهم من جديد، فينشأ أساس جديد للحكم النقدي وربما نظرة جديدة للواقع نفسه.

هل هناك متغير مستقل؟

يروي غاديس أنه قبل بضع سنوات حضر مؤتمراً علمياً في إحدى الجامعات الأميركية المرموقة، وكان موضوع هذا المؤتمر "كيف نستخلص المتغير المستقل؟". ويذكر أن ذلك الموضوع كان دائماً ما يشغل باله وتفكيره، والسبب في ذلك "يكمن في كون المؤرخين لا يفكرون بطريقة المتغيرات المستقلة والتابعة، فهم يفترضون وجود اعتماد متبادل ما بين المتغيرات وبين بعضها البعض، وأن دورهم يكمن في تتبع مظاهر التداخل مع بعضها البعض عبر الزمن".
ومن هنا فإن غاديس يرفض قبول فكرة المتغير المستقل، ويرى أنه لو صح وجود شيء مثل ذلك في التاريخ، لكان هو الذات العليا أو الله.
يرى المؤلف أن فكرة المتغير المستقل بالأساس تنبع من الرؤية العلمية الاختزالية، تلك التي تعتقد أن خير وسيلة لفهم الواقع تتحقق عبر تفتيته إلى أجزاء كثيرة، بحيث يظهر أثر كل متغير صغير في الناتج النهائي للمعادلة.
هذه الطريقة، تستلزم وجود تراتبية وأولوية للمتغيرات، وذلك لتبيان الأهمية النسبية لكل عنصر أو جزئية في الناتج النهائي.
وعلى عكس النمط الاختزالي، فإن هناك نمطاً آخر، يسمّيه غاديس بالنمط البيئي، وهو الذي ينظر إلى كيفية تفاعل المكونات لتصير أنظمة بحيث لا يمكن تعريفها بحساب مجموع أجزائها، ومن هنا فإنه يمكن القول بأن المنظور البيئي جامع بقدر ما يكون المنظور الاختزالي مانعاً.

السببية والعرضية

بعد أن يثبت المؤلف خطأ الادعاء القائل بأن كل حدث تاريخي ينبني على متغير أساس، فإنه ينتقل بعد ذلك إلى دراسة نقطة أخرى، ألا وهي محاولة كشف اللثام عن مسببات الحدث التاريخي، وإذا كانت هناك أسباب عقلانية وراء حدوثه أم أن كل ما هنالك مجرد أسباب عارضة.
يضرب غاديس على ذلك مثالاً، وهو وفاة أحد الأشخاص في حادث تصادم تسبب فيه سائق مخمور أخذ طريقاً لا يعرفه بسبب حاجته لشراء السجائر. عندما يقوم غاديس بتحليل ذلك الموقف، فإنه يؤكد على أن الأسباب المنطقية والعقلانية فيه تكمن في كون السائق مخموراً، بينما يظهر السبب العرضي في كونه قد غيّر من طريقه لشراء السجائر. يؤكد غاديس هنا أنه من الممكن أن نجد علاقة سببية قوية ما بين زيادة نسبة وعدد المخمورين وزيادة عدد الحوادث، ولكن من المستحيل أن نجد علاقة ما بين زيادة عدد الحوادث وشراء السجائر، ومن هنا فالسبب الأول سبب منطقي، بيننا السبب الثاني لا يزيد عن كونه أمراً عارضاً.
ولكن كيف يمكن التمييز ما بين الأسباب العقلانية والأسباب العارضة؟
يجيب المؤلف عن هذا السؤال من خلال تحديده لآلية معينة، تتضمن ثلاثة محددات، الأول وهو التمييز بين الفوري والوسيط والبعيد.
فبحسب ما يقوله غاديس لا يمكن فهم أسباب الكثير من الحوادث إلا بعد أن ندرس تاريخها وخلفيتها بشكل مفصل، ففهم حادثة ضرب القوات اليابانية لميناء بيرل هاربور الأميركي مثلاً، لن يكون في المتناول إلا بعد دراسة تاريخ المنطقة منذ صعود السلطوية والعسكرية في ثلاثينيات القرن العشرين.
المحدد الثاني هو تمييز الاستثنائي من العام، فبحسب غاديس، ينبغي على المؤرخ أن يحدد النقطة الزمنية التي بدأت عندها الأحداث في اتخاذ شكل مختلف عما سبقها، بحيث شكّلت تغيراً نوعياً وليس مجرد تغيرات كمية.
أما المحدد الثالث والأخير، فهو الحقائق المناظرة، ذلك أنه ينبغي على المؤرخ أن يقوم بفرض عدد من الأحداث البديلة والتي كان من الممكن أن تغيّر في صناعة الحدث التاريخي، فمثلاً بالنسبة إلى موضوع هجوم بيرل هاربور، يمكن للمؤرخ أن يتساءل عن مآلات الأحداث في حال نجحت سياسات اليابان التوسعية في آسيا في مطلع القرن العشرين، أو لو لم تتم عملية التحديث اليابانية في الفترة نفسها، وهل كان من الممكن أن يترتب على تلك الأحداث تغيير في موقف اليابان في فترة الحرب العالمية الثانية. 
ويلفت غاديس نظر القراء إلى أن مسألة تحديد الحقائق المناظرة على قدر كبير من الصعوبة، لأن المؤرخ ينبغي أن يحدد أولاً البدائل الواقعية التي كانت متاحة في وقت دراسة الأحداث، ومدى ملائمة تلك البدائل للتحقق من عدمه.
* قراءة محمد يسري أبو هدور
اسم الملف:المشهد التاريخي .. كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي - جون لويس غاديس.pdf
حجم الملف:10.54 MB
موقع كوكب الجغرافيا والمعارف

شارك المقال لتنفع به غيرك

إرسال تعليق

0 تعليقات

3832018391793669111
https://www.merefa2000.com/